الملهوف ::: 226 ـ 234
(226)
إلى الجبانة (184) في الليل عند مقتل الحسين عليه السلام ، فنسمع الجن ينحون عليه فيقولون :
مسح الرسول جبينه أبواه من علياً قريش فله بريق في الخدود جده خير الجدود
    قال الراوي (185) : ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة.
    قال بشير بن حذلم (186) : فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين عليهما السلام ، فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه.
    وقال : « يا بشر (187) ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ ».
    قلت : بلى يا بن رسول الله إني لشاعر.
    قال : « فادخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه السلام ».
    قال بشر : فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة ، فلما بلغت مسجد
روى عنه عبد الرحمن المحرابي وغيره.
    الإكمال 2 / 134.
(184) بالكسر ثم التشديد ، وهي عدة محال بالكوفة ، منها جبانة كندة مشهورة ، وجبانة السبيع كان بها يوم للمختار ابن عبيد ، وجبانة ميمون ... ، وجبانة عرزم ... ، وجبانة سالم ... ، وغير هذه ، وجميعها بالكوفة.
    معجم البلدان 2 / 99 ـ 100.
(185) الراوي ، من ع.
(186) في ر : بشر بن خديم ، وفي ب : بشير بن حذلم ، وفي ع : بشير بن جذلم.
    ولم أجد من ترجمه أو ضبط اسمه ، نعم ذكره بعض المتأخرين معتمداً في ترجمته على كتاب الملهوف.
(187) ب : يا بشير ، وكذا في الموارد الآتية.


(227)
النبي صلى الله عليه وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت أقول :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها الجسم منه بكربلاء مضرج قتل الحسين فأدمعي مدرار والرأس منه على القناة يدار
    قال : ثم قلت : هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه.
    قال : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن ، مكشوفة شعورهن مخمشة وجوههن ، ضاربات (188) خدودهن ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمر على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
    وسمعت جارية تنوح على الحسين وتقول :
نعى سيدي ناع نعاه فأوجعا أعيني جودا بالمدامع (190) واسكبا على من دهى (191) عرش الجليل فزعزعا فأمرضني (189) ناع نعاه فأفجعا وجودا بدمع بعد دمعكـما معا وأصبح أنف الدين والمجد أجدعا (192)

(188) ر : لاطمات.
(189) ب. ع : وأمرضني.
(190) ب. ع : فعيني جودا بالدموع.
(191) ر : وهى.
(192) ب. ع : فأصبح هذا المجد والدين أجدعا.


(228)
على ابن نبي الله وابن وصيه وإن كان عنا شاحط الدار أشسعا
    ثم قالت : أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد الله عليه السلام ، وخدشت منا قروحاً لما تندمل ، فمن أنت يرحمك الله ؟
    قلت : أنا بشير بن حذلم (193) وجهني مولاي علي بن الحسين ، وهو نازل موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين عليه السلام ونسائه.
    قال : فتركوني مكاني وبادروا ، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس ، حتى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليهما السلام داخلاً ، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، فارتفعت اصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء ، والناس (194) من كل ناحية يعزونه ، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة.
    فأومأ بيده أن اسكتوا (195) ، فسكنت فورتهم.
    فقال عليه السلام « الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السموات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفواجع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.
(193) ر : بشر بن خديم. ع : بشير بن جذلم.
(194) قوله : وحنين الجواري والنساء والناس ، لم يرد في ر.
(195) ر : اسكنوا.


(229)
    أيها القوم (196) ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الاسلام عظيمة : قتل أبو عبد الله عليه السلام وعترته ، وسبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها (197) رزية.
    أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟! (198) أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ؟!
    فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسموات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج (199) البحار ، والملائكة المقربون وأهل السموات أجمعون.
    أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع (200) لقتله ؟! أم أي فؤاد لا يحن إليه ؟! أم أي سمع يسمع (201) هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام ولا يصم ؟!
    أيها الناس ، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك أو كابل (202) ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق.
    والله ، لو أن النبي صلى الله عليه وآله تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية (203) بنا لما
(196) ب : الناس.
(197) ر : ما مثلها.
(198) جاء في ع بعد هذه العبارة : أم أي فؤاد لا يحزن من أجله.
(199) ب. ع : ولجج.
(200) ر : لا يتصدع.
(201) ر : سمع.
(202) ر : أيها الناس أصبحنا مشردين مذودين شاسعين على الأمصار ..... ب. ع : أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الأمصار كأنا أولاد ترك وكابل.
(203) كذا في ع. وفي ر : الوصاة. وفي ب : الوصاءة.


(230)
زادوا (204) على ما فعلوا بنا ، فإنا لله وأنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظها أفظعها وأمرها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وابلغ بنا ، إنه عزيز ذو انتقام ».
    قال الراوي (205) : فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان (206) ـ وكان زمناً ـ فاعتذر إليه صلوات الله عليه بما عنده من زمانة رجليه ، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن به وشكر له وترحم على أبيه.
    قال علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس جامع هذا الكتاب : ثم إنه صلوات الله عليه رحل إلى المدينة بأهله وعياله ، نظر إلى منازل قومه ورجاله ، فوجد تلك النازل تنوح بلسان أحوالها ، وتبوح بإعلان الدموع وإرسالها ، لفقد جماتها ورجالها ، وتدب عليهم ندب الثواكل ، وتسأل عنهم أهل المناهل ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم : وا ثكلاه ، وتقول :
    يا قوم ، أعينوني على النياحة والعويل ، وساعدوني على المصاب الجليل ، فان القوم الذين أندب لفراقهم وأحن إلى كرم أخلاقهم ، كانوا سمار ليلي ونهاري ، وأنوار ظلمي وأسحاري ، وأطناب شرفي وافتخاري ، وأسباب قوتي وانتصاري ، والخلف من شموسي وأقماري.
(204) ب : ازدادوا.
(205) الراوي ، من ع.
(206) أما أبوه صعصعة بن صوحان ، فأكثر كتب التاريخ ذكرته وانه من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وأما الابن صوحان ابن صعصعة ، فلم أجد من ترجمه حسب تفحصي ، وبعض من ترجمه اعتمد في ترجمته على هذا المقطع من كتاب الملهوف.


(231)
    كم ليلة شردوا بإكرامه (207) وحشتي ، وشيدوا بإنعامهم حرمتي ، واسمعوني مناجاة أسحارهم ، وأمتعوني بإيداع أسرارهم ؟
    وكم يوم عمروا ربعي بمحافلهم ، وعطروا طبعي بفضائلهم ، وأورقوا عودي بماء عهودهم ، وأذهبوا نحوسي بنماء سعودهم ؟
    وكم غرسوا لي من المناقب ، وحرسوا محلي من النوائب ؟
    وكم أصبحت بهم أتشرف على المنازل والقصور ، وأميس في ثوب الجذل والسرور ؟
    وكم أعاشوا في شعابي من أموات الدهور ، وكم انتاشوا على أعتابي من رفات (208) المحذور.
    فقصدني فيهم سهم الحمام ، وحسدني عليهم حكم الأيام ، فأصبحوا غرباء بين الأعداء ، وغرضاً لسهام الإعتداء ، وأصبحت المكارم تقطع بقطع أناملهم ، والمناقب تشكو لفقد شمائلهم ، والمحاسن تزول بزوال أعضائهم ، والأحكام تنوح لوحشة أرجائهم.
    فيالله من ورع أريق دمه في تلك الحروب ، وكمال نكس علمه بتلك الخطوب.
    ولئن عدمت مساعدة أهل المعقول ، وخذلني عند المصاب جهل العقول ، فإن لي مسعداً من السنن الدارسة والأعلام الطامسة ، فإنها تندب كندبي وتجد مثل وجدي وكربي.
    فلو سمعتم كيف ينوح عليهم لسان حال الصلوات ، ويحن إليهم إنسان
(207) ر : بإلمامهم.
(208) ر : رقاب.


(232)
الخلوات ، وتشتاقهم طوية المكارم ، وترتاح إليهم ندية الأكارم ، وتبكيهم محاريب المساجد ، وتناديهم ميازيب الفوائد (209) ، لشجاكم سماع تلك الواعية النازلة ، وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشاملة.
    بل ، لو رأيتم وجدي وأنكساري وخلو مجالسي وآثاري ، لرأيتم ما يوجع قلب الصبور ويهيج أحزان الصدور ، ولقد شمت بي من كان يحسدني من الديار وظفرت بي أكف الأخطار.
    فيا شوقاه إلى منزل سكنوه ، ومنهل (210) أقاموا عنده وأستوطنوه ، ليتني كنت إنساناً أقيهم حز السيوف ، وأدفع عنهم حر الحتوف ، وأحول بينهم وبين أهل الشنآن (211) ، وأرد عنهم سهام العدوان.
    وهلا إذ فاتني شرف تلك المواساة الواجبة ، كنت محلاً لضم جسومهم الشابحة ، وأهلاً لحفظ شمائلهم من البلاء ، ومصوناً من روعة هذا الهجر والقلاء.
    فآه ثم آه ، لو كنت مخطأ لتلك الأجساد ومحطاً لنفوس أولئك الأجواد ، لبذلت في حفظها غاية المجهود ، ووفيت لها بقديم العهود ، وقضيت له بعض الحقوق الأوائل ، ووقيتها جهدي من وقع تلك الجنادل وخدمتها خدمة العبد المطيع ، وبذلت لها جهد المستطيع ، وفرشت لتلك الخدود والأوصال فراش الإكرام والإجلال ، وكنت أبلغ منيتي من أعتناقها ، وأنور ظلمتي بإشراقها.
    فيا شوقاه إلى تلك الأماني ، ويا قلقاه لغيبة أهلي وسكاني ، فكل حنين يقصر عن حنيني ، وكل دواء غيرهم لا يشفيني ، وها أنا قد لبست لفقدهم أثواب
(209) ر : وتدبهم ميازيب الفوائد ، ع : وتناديهم مارب.
(210) ر : وسهل.
(211) ع : أشفي غيظي من أهل السنان.


(233)
الأحزان ، وأنست من بعدهم بجلباب الأشجان ، ويئست أن يلم بي التجلد والصبر ، وقلت : يا سلوة الأيام موعدك الحشر.
    ولقد أحسن ابن قتة (212) رحمة الله عليه ، وقد بكى على المنزال المشار إليها (213) ، فقال :
مررت على أبيات آل محمد فلا يبعد الله الديار وأهلها ألا إن قتلى الطف من آل هاشم وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية ألم تر أن الشمس أضحت مريضـة فلم أرها أمثالها يوم حلت وإن أصبحت منهم برغمي (214) تخلت أذلت رقاب المسلمين فذلت لقد عظمت تلك الرزايا وجلت لفقد حسين والبلاد اقشعرت
    فاسلك أيها السامع بهذا المصاب مسلك القدوة من حملة الكتاب.
    فقد روي عن مولانا زين العابدين عليه السلام ـ وهو ذو الحلم الذي لا يبلغ الوصف إليه ـ أنه كان كثير البكاء لتلك البلوى ، عظيم البث والشكوى.
    فروي عن الصادق عليه السلام إنه قال : « إن زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضره الإفطاء جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه
(212) في ر : ابن قبة ، وفي ع : ابن قتيبة ، والصحيح : ابن قتة.
    وهو سليمان بن قتة العدوي التيمي ، مولى بني تيم بن مرة ، توفي بدمشق سنة 126 هـ ، وكان منقطعاً إلى بني هاشم.
    سير أعلام النبلاء 4 / 596 ، وذكر أن قتة اسم أمه ، وذكره أيضاً وفي أدب الطف 1 / 54.
(213) ر : على المنزل المشار إليه.
(214) ع : بزعمي.


(234)
ويمتزج شرابه منها ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل ».
    وحدث مولى له عليه السلام أنه برز إلى الصحراء يوماً ، قال : فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه ، وأحصيت عليه ألف مرة يقول : « لا إله إلا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله تعبداً ورقاً لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً ».
    ثم رفع رأسه من سجوده ، وأن لحيته ووجهه قد غمرا من الدموع.
    فقلت : يا مولاي ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ ولبكائك أن يقل ؟
    فقال لي : « ويحك ، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي له اثنى عشر ابناً ، فغيب الله سبحانه واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم والهم وذهب بصره من البكاء وابنه (215) حي في دار الدنيا ، وأنا رأيت (216) أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي ؟! ».
    وها أنا أتمثل وأشير إليهم صلوات الله وسلامه عليهم ، فأقول :
من مخبر الملبسينا بانتزاحهم إن الزمان الذي قد كان يضحكنا حالت لفقدانهم أيامنا فغـدت ثوباً من الحزن لا يبلى ويبلينا بقربهم صار بالتفريق يبكينا سوداً وكانت بهم بيضاً ليالينا
    وهاهنا منتهى ما أردناه وآخر ما قصدناه ، ومن وقف على ترتيبه ورسمه مع أختصاره وصغر حجمه عرف تمييزه على أبناء جنسه وفهم فضيلته في نفسه.
    والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
(215) ر : وولده.
(216) ب : فقدت.
الملهوف ::: فهرس