الملهوف ::: 181 ـ 195
(181)
حزين وقلب كئيب : وا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ، هذا حسين بالعراء ، مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، وا ثكلاه ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء.
    وا محمداه ، وهذا حسين بالعراء ، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا.
    واحزناه ، واكرباه عليك يا أبا عبد الله اليوم مات جدي رسول الله صلى الله عليه وآله.
    يا أصحاب محمد ، هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.
    وفي بعض الروايات : وا محمداه ، بناتك سبايا (162) ، وذريتك مقتلة تسفي عليهم ريح الصباء ، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا.
    بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطع العرى ، بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفداء ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من يقطر شيبه بالدماء (163) ، بأبي من جده رسول اله السماء ، بأبي من هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء ، بأبي من ردت عليه الشمس حتى صلى.
    قال الراوي (164) : فأبكت والله كل عدو وصديق.
    ثم أنه سكينة (165) اعتنقت جسد الحسين عليه السلام ، فاجتمع عدة من الأعراب حتى جروها عنه.
(162) ر : السبايا.
(163) ب.ع : شيبته تقطر بالدماء. وفي ع جاء بعد هذا : بأبي من جده محمد المصطفى.
(164) الراوي ، من ع.
(165) سكينة بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، كريمة نبيلة ، كانت سيدة نساء عصرها ، توفيت سنة 117 هـ ، نسب إليها بعض المؤرخين أموراً نقطع بكذبها وافترائها عليها ، ليس هذا محل ذكرها.
    الطبقات 8 / 348 ، الدر المنثور : 244 ، وفيات الأعيان 1 / 211 ، الأعلام 3 / 106.


(182)
    قال الراوي (166) : ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه (167) : من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره (168) ؟
    فانتدب منهم عشرة ، وهم : إسحاق بن حوبة الذي سلب الحسين عليه السلام قميصه ، وأخنس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل السبيعي (169) ، وعمر بن صبيح الصيداوي (170) ، ورجاء بن منقذ العبدي (171) ، وسالم بن خيثمة الجعفي (172) ، وصالح بن وهب الجعفي (173) ، وواحظ بن غانم (174) ، وهاني بن ثبيت الحضرمي (175) ، وأسيد بن مالك (176) لعنهم الله فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر
(166) الراوي ، من ع.
(167) ر : ثم أن عمر بن سعد قال.
(168) ع : ظهره وصدره.
(169) ب. ع : السنبسي ، والمثبت من ر.
    وهو : حكيم بن طفيل الطائي ، من المقدمين في العصر الأموي ، ولما امتلك المختار الكوفة ونادى بقتل قتلة الحسين ، قبض عليه ، وقتله رمياً بالسهام حتى صار كأنه القنفذ.
    الكامل في التاريخ 4 / 94 ، الأعلام 2 / 269.
(170) لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.
(171) في مستدركات علم الرجال 3 / 395 : رجاء بن المنقذ العبدي ، لم يذكروه ، خبيث.
(172) ع : خيثمة.
    في مستدركات علم الرجال 4 / 7 : سالم بن خيثمة الجعفي ، لم يذكروه ، خبيث ملعون.
(173) في مستدركات علم الرجال 4 / 248 : صالح بن وهب المزني ، خبيث ملعون.
(174) ب. ع : ناعم.
    لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.
(175) ع : وهاني بين شبث.
    لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.
(176) لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.


(183)
خيلهم حتى رضوا ظهره وصدره (177).
    قال الراوي : وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد لعنه الله ، فقال أسيد بن مالك أحد العشرة.
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكل يعبوب شديد الأسر
    فقال ابن زياد لعنه الله : من أنتم ؟
    قالوا : نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا حناجر صدره.
    قال : فأمر لهم بجائزة يسيرة.
    قال أبو عمر (178) الزاهد : فنطرنا في هؤلاء العشرة ، فوجدناهم جميعاً أولاد زنا.
    وهؤلاء أخذهم المختار ، فشد أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا.
    وروى ابن رباح (179) قال : لقيت رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الحسين عليه السلام.
    فسئل عن ذهاب بصره ؟
    فقال : كنت شهدت قتله عاشر عشرة ، غير أني لم أطعن ولم أضرب ولم أرم ،
(177) ذهب الكثير من علمائنا إلى أنهم عزموا على رض ظهر الحسين وصدره ، ولكن لم يمكنهم الله من ذلك ، ووردت بهذا المطلب عدة روايات ، والله العالم.
(178) ب : أبو عمرو.
    هو محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم المطرز الباوردي ، المعروف بغلام ثعلب ، أحد أئمة اللغة ، صحب ثعلباً النحوي ، وكان من المكثرين في التصنيف ، توفي في بغداد سنة 345 هـ.
    وفيات الأعيان 1 / 500 ، تاريخ بغداد 2 / 356 ، الأعلام 6 / 254.
(179) هو عطاء بن أبي رباح ، تابعي ، كان عبداً أسوداً ، ولد باليمن ونشأ بمكة ، فكان مفتي أهلها ، توفي فيها سنة 114 هـ.
    تذكرة الحفاظ 1 / 92 ، صفة الصفوة 2 / 119 ، الأعلام 4 / 135.


(184)
فلما قتل رجعت إلى منزلي وصليت العشاء الآخرة ونمت.
    فأتاني آت في منامي ، فقال : أجب رسول الله صلى الله عليه وآله.
    فقلت : مالي وله.
    فأخذ بتلابيبي وجرني إليه ، فإذا النبي صلى الله عليه وآله جالس في صحراء ، حاسر عن ذراعية ، آخذ بحربة ، وملك قائم بين يديه وفي يده سيف من نار يقتل أصحابي التسعة ، فلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً.
    فدنوت منه وجثوت بين يديه وقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فلم يرد علي ، ومكث طويلاً.
    ثم رفع رأسه وقال : يا عدو الله أنتهكت حرمتي وقتلت عترتي ولم ترع حقي وفعلت ما فعلت.
    فقلت : يا رسول الله ، والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم.
    فقال : صدقت ، ولكن كثرت السواد ، أدن مني ، فدنوت منه ، فاذا طشت مملو دماً ، فقال لي : هذا دم ولدي الحسين عليه السلام ، فكحلني من ذلك الدم ، فانتبهت حتى الساعة لا أبصر شيئاً.
    وروي عنه الصادق عليه السلام ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة عليها السلام قبة من نور ، ويقبل الحسين عليه السلام ورأسه في يده ، فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بكى لها ، فيمثله الله عز وجل لها في أحسن صورة ، وهو يخاصم قتلته بلا رأس ، فيجمع الله لي قتلته والمجهزين عليه ومن شرك في دمه ، فأقتلهم حتى آتي على آخرهم ، ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين عليه السلام ، ثم ينشرون فيقتلهم الحسن عليه السلام ، ثم


(185)
ينشرون فيقتلهم الحسين عليه السلام ، ثم ينشرون فلا يبقى من ذريتنا أحد إلا قتلهم ، فعند ذلك يكشف الغيط وينسى الحزن ».
    ثم قال الصادق عليه السلام : « رحم الله شيعتنا ، هم والله المؤمنون وهم المشاركون لنا (180) في المصيبة بطول الحزن والحسرة ».
    وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « اذا كان يوم القيامة تأتي فاطمة عليها السلام في لمة من نسائها.
    فيقال لها : ادخلي الجنة.
    فتقول : لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي.
    فيقال لها : أنظري في قلب القيامة ، فتنظر إلى الحسين عليه السلام قائماً ليس عليه رأس ، فتصرح صرخة ، فأصرخ لصراخها وتصرخ الملائكة لصراخها ».
    وفي رواية أخرى : « وتنادي وا ولداه ، واثمرة فؤاداه ».
    قال : « فيغضب الله عز وجل لها عند ذلك ، فيأمر ناراً يقال لها هبهب قد أوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، لا يدخلها روح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً.
    فيقال لها : التقطي قتلة الحسين عليه السلام ، فتلتقطهم ، فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها وشهقت وشهقوا بها وزفرت وزفروا بها.
    فينطقون بألسنة حداد ذلقة ناطقة : يا ربنا بم أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان ؟
    فيأتيهم الجواب عن الله عز وجل : ليس من علم كمن لا يعلم ».
(180) ع : قد والله شركونا.

(186)
    روى هذه الحديثين ابن بابويه في كتاب عقاب الأعمال (181) (182).
(181) محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، يعرف بالشيخ الصدوق ، محدث كبير ، لم ير في القميين مثله ، نزل بالري ، توفي سنة 381 هـ ودفن بالري ، له عدة مؤلفات.
    وكتاب عقاب الأعمال تعرض فيه لذكر عقاب الأعمال المنهي عنها ، طبع مع ثواب الأعمال له عدة مرات.
    رياض العلماء 5 / 119 ، الكنى والألقاب 1 / 212 ، تنقيح المقال 3 / 154 ، الأعلام 6 / 274.
(182) جاء بعد هذا في ع :
    ورأيت في المجلد الثلاثين من تذييل شيخ المحدثين ببغداد محمد بن النجار في ترجمة فاطمة بنت أبي العباس الأزدي بإسناده عن طلحة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن موسى بن عمران سأل ربه قال : يا رب إن أخي هارون مات فاغفر له ، فأوحى الله إليه : يا موسى بن عمران ، لو سألتني في الأولين والآخرين لا جبتك ، ما خلا قاتل الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهما.


(187)


(188)

(189)
    وهي تمام ما أشرنا إليه.
    قال : ثم إن عمر بن سعد لعنه الله بعث برأس الحسين عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم ـ وهو يوم عاشوراء ـ مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي (1) إلى عبيد الله بن زياد ، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقطعت وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن لعنه الله وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج ، فأقبلوا بها حتى قدموا الكوفة.
    وأقام ابن سعد بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس ، ثم رحل بمن تخلف من عيال الحسين ، وحمل نساءه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء مكشفات الوجوه بين الأعداء ، وهن ودائع خير الأنبياء ، وساقوهن كما يساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم.
(1) في تنقيح المقال 1 / 380 : حميد بين مسلم الكوفي ، لم أقف فيه إلا على عد الشيخ رحمه الله إياه في رجاله من أصحاب السجاد عليه السلام ، وظاهره كونه إمامياً ، إلا أن حاله مجهول.
     وفي مستدركات علم الرجال 3 / 289 : حميد بن مسلم الكوفي ، عد من مجاهيل اصحاب السجاد عليه السلام ، وهو ناقل جملة من قضايا كربلاء على نحو يظهر منه أنه كان في وقعة الطف ... وكان من جند سليمان بن صرد من طرف المختار في مقتل عين الوردة في حرب اهل الشام لطلب ثار الحسين عليه السلام.
     أقول : أحتمل تعدد حميد بن مسلم : أحدهما كان في واقعة الطف ونقل بعض الوقائع وأرسل عمر ابن سعد رأس الحسين معه ومع جماعة إلى عبيد الله بن زياد ، مما يدل على أنه كان من أعوان عمر بن سعد ، والثاني إمامي من أصحاب الامام السجاد ومن جند سليمان بن صرد.


(190)
    ولله در القائل :
يصلى على المبعوث من آل هاشم ويغزى بنوه إن ذا لعجب (2)
    وروي : أن رؤوس أصحاب الحسين عليه السلام كانت ثمانية وسبعين رأساً ، فاقتسمتها القبائل ، لتتقرب بذلك إلى عبيد الله بن زياد وإلى يزيد بن معاوية :
    فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً ، وصاحبهم قيس بن الأشعث.
    وجاءت هوازن باثني عشر رأساً ، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن.
    وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً.
    وجاء بنو أسد بستة عشر رأساً.
    وجاءت مذحج بسبعة رؤوس.
    وجاء سائر الناس بثلاثة عشر رأساً.
    قال الراوي : ولما انفصل ابن سعد (3) عن كربلاء ، خرج قوم من بني أسد ، فصلوا علىتلك الجثث الطواهرالمرملة بالدماء ، ودفنوها على ما هي الآن عليه.
    وسار ابن سعد بالسبي المشار إليه ، فلما قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن.
    قال الراوي : فاشرفت امرأة من الكوفيات ، فقالت : من أي الاسارى أنتن ؟
    فقلن : نحن أسارى آل محمد صلى الله عليه وآله.
    فنزلت من سطحها ، فجمعت ملاء (4) وأزراً ومقانع ، فأعطتهن ، فتغطين.
(2) جاء في ع بعد هذا :
    وقال آخر :
أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب
(3) ب : عمر بن سعد.
(4) ر : ملاحف خ ل.


(191)
    قال الراوي (5) : وكان مع النساء علي بن الحسين عليه السلام ، قد نهكته العلة ، والحسن بن الحسن المثنى (6) ، وكان قد واسى عمه وإمامه (7) في الصبر على الرماح (8) ، وإنما ارتث وقد أثخن بالجراح (9).
    وكان معهم أيضاً زيد (10) وعمرو (11) ولدا الحسين السبط عليه السلام.
(5) الراوي ، من ع.
(6) الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، يعرف بالمثنى ، وابنه الحسن يعرف بالمثلث ، كان جليلاً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين عليه السلام في وقته ، تزوج من أبنة عمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام ، حضر مع عمه الحسين يوم الطف ، وحارب وجرح وشافاه الله ، أمه خولة بنت منظور الفرازي ، توفي نحو سنة 90 هـ بالمدينة ، ولم يدع الإمامة لا ادعاها له مدع ، بخلاف ابنه الحسن المثلث.
    تسمية من قتل مع الحسين : 157 ، تهذيب ابن عساكر 4 / 162 ، الأعلام 2 / 187 ، معجم رجال الحديث 4 / 301.
(7) وإمامه ، لم يرد في ر.
(8) ع : في الصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح.
(9) جاء بعدهذا في ع :
    وروى مصنف كتاب المصابيح : أن الحسن بن الحسن المثنى قتل بين يدي عمه الحسين عليه السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً وأصابه ثمانيةعشرجراحة ، فوقع ، فأخذه خاله أسماء بن خارجة ، فحمله إلى الكوفة وداواه حتى برء ، وحمله إلى المدينة.
(10) زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، أبو الحسن الهاشمي ، من أصحاب السجاد عليه السلام ، جليل القدر ، كريم الطبع ، طريف النفس ، كثير البر ، كان يلي صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله ، وذكر بعض المؤرخين أنه تخلف عن عمه الحسين فلم يخرج معه إلى العراق ، مات سنة 120 هـ ، لم يدع الإمامة ولاأدعاها له مدع من الشيعة ولا غيرهم.
    معجم رجال الحديث 7 / 339 ، وبالنقل عن : رجال الشيخ ، والإرشاد للمفيد ، والعمدة للسيد منها ، والبحار 46 / 329.
(11) ذكر في مختصر تاريخ دمشق 19 / 198 باسم : عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، خرج مع



(192)
    فجعل أهل الكوفة ينحون ويبكون.
    فقال علي بن الحسين عليه السلام : « أتنوحون وتبكون من أجلنا ؟!! فمن الذي قتلنا ؟!! ».
    قال بشير بن خزيم الأسدي (12) ونظرت إلى زينب ابنت علي عليه السلام يومئذ ، فلم أر خفرة قط أنطق منها ، كأنها (13) تفرغ من لسان أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا (14) ، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت :
    الحمد لله ، والصلاة على جدي (15) محمد وآله الطيبين الأخيار.
    أما بعد ، يا أهل الكوفة ، ياأهل الختل والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت (16) الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزالها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذرون أيمانكم دخلاً بينكم.
    ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف (17) ، والصدر والشنف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء ؟! أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
عمه الحسين بن علي إلى العراق ، وكان فيمن قدم به دمشق مع علي بن الحسين ، ولد محمداً وانقرض ولده ، وكان رجلاً ناسكاً من أهل الصلاح والدين.
(12) ر : شبير بن خزيم الاسدي.
    في مستدركات علم الرجال 2 / 37 : بشير بن جزيم الأسدي ، لم يذكروه ، وهو راوي خطبة مولاتنا زينب عليها السلام بالكوفة.
(13) ر : كأنما.
(14) ر : اسكنوا.
(15) ب.ع : أبي.
(16) ر : فلا رقت.
(17) ر : والظلف.


(193)
    أتبكون وتنتحبون ؟! إي والله فأبكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها (18) ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد (19) شاب أهل الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفرغ نازلتكم ، ومنار (20) حجتكم ، ومدرة سنتكم.
    ألاساء ما تزرون ، وبعداً لكم سحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأ يدي ، وخسرت الصفقة ن وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.
    ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون (21) أي كبد لرسول الله فريتم ؟! وأي كريمة له أبرزتم ؟! وأي دم له سفكتم ؟! وأي حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء (22).
    وفي بعضها : خرقاء شوهاء ، كطلاع الأرض وملاء السماء.
    أفعجبتم أن مطرت (23) السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل ، فانه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربكم لبالمرصاد.
    قال الراوي (24) : فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم.
(18) ب : وسنآنها.
(19) ب : خاتم الأنبياء وسيد.
(20) ر : ومعاذ.
(21) ر : ويلكم أتدرون يا أهل الكوفة.
(22) ر : عنقاء سواآء فقماء ناداء.
(23) ب : قطرت.
(24) الراوي ، من ع.


(194)
    ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل ، لا يخزى ولا يبزى.
    وروى زيد بن موسى (25) قال : حدثني أبي ، عن جدي عليهما السلام قال : خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ورد من كربلاء ، فقالت :
    الحمد الله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله ، وأن ذريته (26) ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل ولا ترات (27).
    اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصية علي بن أبي طالب عليه السلام ، المسلوب حقه ، المقتول بغير ذنب ـ كما قتل ولده بالأمس ـ في بيت من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك (28) محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور (29)
(25) زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين العلوي الطالبي ، ثائر ، خرج في العراق مع أبي السرايا ، توفي نحو سنة 250 هـ.
    الأعلام 3 / 61 ، الكامل في التاريخ 6 / 104 ، مقاتل الطالبيين : 534 ، جمهرة الأنساب : 55.
(26) ب : ولده. ع : أولاده.
(27) ر : من غير دخل ولا تراث. ع : بغير ذحل ولا تراب.
    الذحل : الحقد والعداوة ، يقال : طلب بذحلة أي : بثاره. والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول منه : وتره يتره وتراً وتيرة.
    الصحاح 4 / 1701 ، 2 / 483.
(28) ر : قبضه الله إليه.
(29) ر : مشهود.


(195)
المذاهب ، لم تأخذه اللهم فيك لومة (30) لائم ولا عذل عاذل ، هديته يا رب للغسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك ، ، زاهداً في الدنيا ، غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته (31) إلى صراط مستقيم.
    أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر (32) والخيلاء ، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل (33) بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على أهل الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً.
    فكذبتمونا ، وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً وأمولنا نهباً ، كأننا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ، لحقد متقدم ، قرت لذلك (34) عيونكم ، وفرحت قلوبكم ، افتراء على الله ومكراً مكرتم (35) ، والله خير الماكرين.
    فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أسبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فان ما اصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة (36) في كتاب من
(30) ر : لم تأخذه في الله لومة.
(31) ر : رضيته فهديته.
(32) ر : يا أهل الغدر.
(33) ر : فوجد.
(34) ب : بذلك.
(35) ر : مكرتموه.
(36) ر : والرزء العظيم.
الملهوف ::: فهرس