بـيـان :
المراد بها الدمار (1) قال الجزري : البلاقع جمع بلقع ، وبلقعة ، وهي الأرض القفر التي لا شيء بها ، يريد أنّ الحالف بها يفتقر ويذهب ما في بيته من الرزق . وقيل : هو أن يفرّق الله شمله ، ويغيّر عليه ما أولاه من نعمه (2) . وفي المثل : ( اليمين الغموس تدع الديار بلاقع ) (3) .
وعلى معنى الدعاء للسلامة فلا مانع من تفسير السلام على الكائنات به ، بأن يديم الله سلامتها ، لينتفع بها الأحياء من البشر وغيره ، بل لا شك أنّها من نِعَم الله وآلائه ، التي حثّ العباد على شكرها ، وضمن لهم الزيادة ، وهي إدامتها ومضاعفاتها ، قال تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد ) (4) .
وعلى معنى تبادل الحبّ فيراد من السلام عليها إنا وإيّاها نتعاهد على الحبّ في الله والطاعة له ، ولكن بيننا وبينها فرق أن الكائنات غير الشاعرة بنظرنا وهي في الواقع شاعرة ، لا تحيد عن أمر الله ، مطيعة له ، مقهورة لقضائه ، كما في آية ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) (5) . فهي مسيرة ونحن مخّيرون ، ومن ثم نطيع مرّة ، ونتمرّد
____________
1 ـ لأن الديار الأرض العامرة وإلاّ فهي البلاقع .
2 ـ النهاية 1 | 153 ـ بلقع ـ .
3 ـ مجمع الأمثال 2 | 425 ، رقم المثل 4744 ، حرف الياء . وفيه : ( اليمين الغموس : التي تغمس صاحبها في الإثم ، فهو فعول بمعنى فاعل ، قال الخليل : الغموس اليمين التي لم توصل بالاستثناء ، والبلقع : المكان الخالي ) .
4 ـ إبراهيم : 7 .
5 ـ فصلت : 11 .
أقول : جاء التخاطب مع الحيوانات كتخاطب الجمادات من سماء وأرض ، والنباتات من شجر ونبات ، فقد روى ابن شهر اشوب في المناقب 1 | 25 ـ 26 في قصّة مجيء أبرهة بن الصباح لهدم الكعبة : أتاه عبد المطلب ليسترد إبله ، فقال : تُعلمني في مائة بعير ، وتترك دينك ودين آبائك ، وقد جئت لهدمه فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل وللبيت ربّ سيمنعه منك ، فردّ إليه إبله فانصرف إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، فأخذ بحلقة الباب قائلاً :
يـا ربّ لا أرجـو لـهـم سـواكـا * يـا ربّ فـامـنـع مـنـهـم حمـاكـا
إنّ عـدوّ الـبيـت مـن عـاداكـا * امـنـعـهـم أن يـخـربـوا قـراكـا
(229)
أخرى ، ولأجل ذلك حسن التعاهد معها على الطاعة ، كما نتعاهد مع المعصومين عليهم السلام على ذلك ، وفي الحقيقة تكون المعاهدة من جانب واحد ، لأن الكائنات لا تتخلّف عن انقيادها الذاتي القهري ، وكذا المعصوم عليه السلام لعصمته .
وعلى معنى التعاهد فالأمر أوضح ، وهذا التفسير يرجع إلى التعاهد في الحبّ في الله .
المقـام الثـاني :
في إمكـان سـلام الكـائنات ووقـوعه
المراد بالكائنات الجمادات والنباتات والحيوانات ، وأما الإنسان فقد عرفت الحال فيه كما اتّضح من المقام الأوّل صحّة الخطاب معها والسلام عليها . والتكلم هنا عن سلامها أو تحققه ، وبلفظ أبين : هل يمكن أن يسلّم الشجر والحجر والحيوان وغيرها على الإنسان ، وبعد أن يكون ممكناً هل هو واقع أو لا ؟ ؟ .
الجـواب :
أمّا الإمكان فلا يمنعه العقل ؛ إذ لا يلزم منه ما يخالف سنّة العقل أو النقل .
وأمّا الوقوع فهل هو على تقديره يكون بالقول والنطق ، كنطقنا ، أو هو بطور آخر من لسان الحال ، أو لسان الذات ؟ ؟ .
____________
=
وله أيضاً :
لا هـمّ أنّ المـرء يـمنع رحـله فامـنع رحـالك * لا يغلـبنّ صلـيبـهم ومحـالـهم غـدوا محـالـك
أي كيدهم ، والمِحال بالكسر : الكيد ، فانجلى نوره على الكعبة ، فقال لقومه : انصرفوا والله ما انجلى من جبيني هذا النور إلا ظفرت ، والآن قد انجلى عنه ، وسجد الفيل له ، فقال للفيل : يا محمود ، فحرّك الفيل رأسه ، فقال له : تدري لِمَ جاؤوا بك ؟ فقال الفيل برأسه لا ، فقال : جاؤوا بك لتهدم بيت ربّك ، أفتراك فاعل ذلك ؟ فقال الفيل برأسه : لا .
(230)
الجـواب :
إن من الكائنات السماء والأرض ، وقد نصت آية ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) (1) على وقوع القول في غير السلام منهما ، فضلاً عن إمكانه ، وقلنا : إذا ثبت لهما ذلك ثبت لغيرهما من الكائنات ، لاشتراك النظائر في الحكم ، وعدم الامتياز فيه ، إلاّ لدليل ولا دليل عليه ، بل بعض آيات القرآن الكريم قد صرح بتسبيح السموات والأرض وكلّ شيءٍ كما سبق بيانه (2) .
قال الشيخ المجلسي طاب ثراه :
وروي أنه نزل جبرئيل على جياد (3) أصفر والنبيّ ، صلى الله عليه وآله ، بين علي عليه السلام وجعفر ، فجلس جبرئيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، ولم ينّبهاه إعظاماً له ، فقال ميكائيل : إلى أيّهم بُعثت ؟ قال : إلى الأوسط ، فلمّا انتبه أدّى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى ، فلمّا نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، بثوبه ثم قال : ما اسمك ؟ قال : جبرئيل ، ثم نهض النبيّ ، صلى الله عليه وآله ، ليلحق بقومه فما مرّ بشجرة ولا مدرة إلا سلّمت عليه وهنأته . ثم كان جبرئيل يأتيه ولا يدنو منه ، إلا بعد أن يستأذن عليه ، فأتاه يوماً وهو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجر عين ، فتوضّأ جبرئيل وتطهَّر الرسول ، ثم صلّى الظهر ، وهي أوّل صلاة فرضها الله عزّ وجلّ ، وصلّى أمير المؤمنين عليه السلام مع
____________
1 ـ فصلت : 11 .
2 ـ في غضون المقام الأول . . .
وهل يسمعه الكل أو يخص الأنبياء والأوصياء عليهم السلام دون غيرهم ، يأتي بيانه قريباً . ولعل ما جاء في تفسير آية ( وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدّث أخبارها * بأن ربك أوحى لها ) [ الزلزلة : 3 ـ 5 ] . عن القمي أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الأنسان القائل للأرض ، وأنها إياه تحدث بأخبارها ، وحديث زلزلة المدينة وقوله لها اسكني فسكنت ، وقله : إياي تحدث ، والنبوي قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمله على ظهرها ، تقول : عمل كذا و كذا فهذا أخبارها . ( بأن ربك أوحى لها ) أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها . تفسير القمي 2 | 433 ، وتفسير الصافي 2 | 840 . يؤيد القول الثاني أي اختصاص تكلم الكائنات بالنبي أو وصي نبي فتدبر .
3 ـ يحتمل أنه تصحيف « جواد » والأصفر صفة له أنظر البحار 18 | 196 ، هامشه .
(231)
النبيّ ، صلى الله عليه وآله ، ورجع رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، من يومه إلى خديجة فإخبرها ، فتوضأت وصلّت صلاة العصر من ذلك اليوم (1) .
بيـان :
بعد إخراج الحديث فيه تصريح بسلام الشجر والمدر عليه ، صلّىالله عليه وآله ، وظاهره بالقول المسموع ، كما أن الشجر والمدر من باب المثل فيشمل غيرهما .
وقد جاء التصريح بسلام كل شيء على النبي ، صلى الله عليه وآله ، فيما حكاه رحمه الله أيضاً بلفظ :
وروي أن جبرئيل عليه السلام أخرج قطعة ديباج فيها خطّ فقال : أقرأ ، قال : كيف أقرأ ولست بقارىء ؟ إلى ثلاث مرات فقال في المرة الرابعة : ( اقرآ باسمك ربّك ) إلى قوله : ( ما لم يعلم ) (2) ، ثم أنزل الله تعالى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام ومع كلّ واحد منهما سبعون ألف ملك ، وأتى بالكرسي ووضع تاجاً على رأس محمد ، صلى الله عليه وآله ، وأعطي لواء الحمد بيده ، فقال : اصعد عليه واحمد لله ، فلمّا نزل عن الكرسي توجّه إلى خديجة فكان كلّ شيءٍ يسجد له ( أي لله تعالى ) ويقول بلسان فصيح : السلام عليك يا نبي الله ، فلما دخل الدار صارت منوّرة فقالت خديجة : وما هذا النور ؟ قال : هذا نور النبوة ، قولي : لا أله إلا الله محمد رسول الله ، فقالت : طال ما قد عرفت ذلك ، ثم أسلمت ، فقال :
____________
1 ـ البحار 18 | 196 ، قوله : « فغمز بعقبه » لعل الضمير فيه يعود إلى جبرئيل عليه السلام ، ويكون « بناحية
الوادي » مفعول « فغمز » ، ويحتمل أن يكون اللفظ : « بعقبة بناحية الوادي » والعقبة : المرقى الصعب من الجبل . والمراد هنا المرتفع . والله العالم .
وحديث ابن عباس وفيه « خرج رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، من حرا فما مر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وناداه السلام عليك يا رسول الله . . . » تفسير البرهان 4 | 479 . وفي مناقب ابن شهر آشوب 1 | 126 : وكان لا يمر على شجرة إلا سلمت عليه . وكان القمر يحرك مهده في حال صباه . صلى الله عليك يا رسول الله .
2 ـ « أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله (
بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك ) وآخره ( إذا جاء نصر الله ) رواه الكليني في أصول الكافي 2 | 628 ، باب النوادر من كتاب فضل القرآن ، الحديث 5 .
(232)
يا خديجة إنّي لأجد برداً ، فدثرت عليه فنام فنودي : ( يأَيّها المدَثر ) الآية، فقام وجعل إصبعه في أُذنه وقال : الله أكبر الله أكبر ، فكان كلّ موجود يسمعه يوافقه (1) .
بيـان :
قوله : « فكان كل شيءٍ يسجد له ، ويقول بلسان فصيح : السلام عليك يا نبيّ الله » أي يسجد لله تعالى كما أشرنا إليه آنفاً ، أو يكون كناية عن الاحترام ، أو غيرهما من المعاني الصحيحة . وفيه تصريح بسلام كل شيءٍ عليه صلى الله عليه وآله ، وهل هو خاصّ به أو يعم الخلّص من المؤمنين أيضاً ؟ .
الجواب :أنه لا ينفيه الحديث وهل يكون له تجاوب وعلقة بين الإنسان وغيره ؟ يأتي الجواب قريباً بأن البقاع التي كانوا يعبدون الله تعالى عليها تسلم عليهم ، بل وتبكي لفقدهم رحمة بهم ، وقد روى الشيخ البهائي في كتابه ( الأربعين ) ما يدل عليه من بعض الوجوه قال طاب ثراه فيه :
وبالسند المتصل إلى الشيخ الصدوق ـ عماد الإسلام ـ محمد بن علي بن بابويه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن وهب ، عن عمر بن نهيل ، عن سلام المكّي ، عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام قال : « أتى رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقال له : شيبة
____________
1 ـ البحار 18 | 196 ـ 197 .
قد سبق منا في بعض الهوامش أن تكلم الكائنات خاص بنبيّ أو وصي نبيّ ، ولكن بعض الأحاديث دل على عدم الاختصاص ، منها ما رواه أمين الإسلام الطبرسي في كتابه إعلام الورى 35 ، في جملة من كلامه قال : ومنها كلام الذئب ، وذلك أن رجلاً كان في غنمه يرعاها ، فأغفلها سويعة من نهاره ، فعرض ذئب فإخذ منها شاةً ، فأقبل يعدو خلفه ، فطرح الذئب الشاة ، ثم كلمه بكلام فصيح فقال : تمنعني رزقاً ساقه الله إلي ؟ فقال الرجل : يا عجباً الذئب يكلّم ، فقال : أنتم أعجب وفي شأنكم للمعتبرين عبرة ، هذا محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة وأنتم عنه لاهون ، فأبصر الرجل رشده ، وأقبل حتى أسلم ، وأبقى لعقبه شرفاً لا تخلقه الأيام ، يفخرون به على العرب والعجم يقولون : إنا بنو مكلم الذئب .
(233)
الهذلي ، فقال : يا رسول الله إني شيخ قد كبرت سنّي ، وضعفت قوّتي عن عمل كنت عوّدته نفسي ، من صلاة ، وصيام ، وحجّ ، وجهاد ، فعلّمني يا رسول الله كلاماً ينفعني الله به ، وخفّف عليّ يا رسول الله ، فقال : أعدها فأعادها ثلاث مرّات ، فقال رسول الله : ما حولك شجرة ولا مدرة إلا وقد بكت من رحمتك [ كذا ] ، فإذا صلّيت الصبح فقل عشر مرات : ( سبحان الله العظيم وبحمده ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ) ، فإن الله عزّ وجلّ يعافيك بذلك من العمى ، والجنون ، والجذام ، والفقر . والهرم . فقال : يا رسول الله هذا للدنيا فما للآخرة ؟ قال : تقول في دبر كل صلاة : ( اللهم اهدني من عندك وأفض عليّ من فضلك وانشر عليّ من رحمتك ، وأنزل عليّ من بركاتك ) .
قال : فقبض عليهنّ بيده ، ثم مضى ، فقال رجل لابن عباس : ما أشدّ ما قبض خالك ـ من باب الاستهزاء ـ ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : اما إن وافى بها يوم القيامة لم يدعها متعمداً فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء » (1)
والحديث صريح في حالة الكائنات من نبات أو جماد ، وأنها تبكي رحمة للشيخ المذكور ، والظاهر أنها لا تخص إنساناً خاصّاً .
وهكذا سور القرآن لمن كان من الناس يتلوها تخاطبه في المحشر وتسلّم عليه كسلامنا . ففي الصحيح عن يعقوب الأحمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : « جعلت فداك إنه أصابتني هموم وأشياء ، لم يبق شيء من الخير إلا وقد تفلّت منّي منه طائفة حتى القرآن لقد تفلت مني طائفة منه ، قال : ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن ، ثم قال : إن الرجل لينسى السورة من القرآن ، فتأتيه يوم القيامة حتى تُشرف عليه من درجة من بعض الدرجات ، فتقول : السلام عليك ، فيقول : وعليك السلام مَن أنت ؟ فتقول : أنا سورة كذا وكذا ضيّعتني وتركتني ، أما لو تمسّكت بي بلغت بك هذه الدرجة ، ثم أشار بأصبعه ، ثم قال : عليكم بالقرآن فتعلموه ، فإن من
____________
1 ـ الأربعين 199 ـ 200 ، الحديث الثاني والثلاثون ، وللبهائي طاب ثراه حوله شرح يجدر الرجوع إليه .
(234)
الناس من يتعلم القرآن ليقال : فلان قارئ ، ومنهم من يتعلمه فيطلب به الصوت فيقال : فلان حسن الصوت ، وليس في ذلك خير . ومنهم من يتعلمه فيقوم به ليله ونهاره لا يبالي من علم ذلك ومن لم يعلمه » (1) .
بـيـان :
لعلك تقول : سلام سور القرآن معناه : نطقها الذاتي وبطابعها القرآني كقوله تعالى : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) (2) . وكل شيء بهذا التفسير كذلك ، وهي دلالة الذاتية على وجود صانعه ، وعليه فسلام السور القرآنية سلام طابعي ذاتي ، لا سلام التحية القولية .
والجواب عنه وعمّا يضاهيه :
أن باب التأويل مفتوح إذا استحال ذلك في العقول ، يعني أن العقل لا يرى سلام الكائنات القولي من المحال ، وأن فيه من المحذور العقلي ، ومن المعلوم أن لا استحالة في سلامها ولا كلامها ولا بكائها ، ولا يلزم من ذلك محذور أبداً ، لا عقلاً ولا شرعاً ، بل جاء في القرآن صريحاً أن السماء والأرض وكل شيء له نطق قد سبقت الآي المصرحة بذلك هذا من حيث الإمكان ، بل حتى الوقوع من هذا النوع ، وإن بقي في المقام تساؤل وهو ما معنى سلام السورة ، أو الركن الغربي ، أو الحجر ، والمدر ، والشجر ، بل وكل شيء ،وهل سلام ذلك كله كسلامنا ؟ أو المراد به الأنقياد لأمر الله تعالى ، والخضوع الذاتي المشار إليه آنفاً ؟ .
وتقدم الجواب عن هذا السؤال قريباً ، ويأتي بيانه أيضاً بشكل آخر وهو أنه لا بد من العلقة الذاتية والسنخية مع الأشياء حتى يعرف لغتها الخاصة بها ، كما وقد سبق أنهم عليهم السلام لهم المعرفة والارتباط بالكائنات جميعاً ، وهم الذين يسمعون ويسمّعون الآخرين من تكلم كل شيء ، حتى النطق والتحية ، ويشهد بذلك تكلم الأسد مع الإمام الكاظم عليه السلام ، وجوابه ، روحي فداه ، له .
____________
1 ـ أصول الكافي 2 | 608 ـ 609 .
2 ـ الجاثية : 29 .
(235)
عن البطائني قال : خرج موسى بن جعفر عليه السلام في بعض الأيام من المدينة إلى ضيعة له خارجة عنها ، فصحبته وكان راكباً بغلة وأنا على حمار ، فلما صرنا في بعض الطريق اعتَرَضَنا أسد فأحجمتُ خوفاً ، وأقدم أبو الحسن غير مكترث به ، فرأيت الأسد يتذلل لأبي الحسن ويهمهم ، فوقف له أبو الحسن كالمصغي إلى همهمته ، ووضع الأسد يده على كفل بغلته ، وخفت من ذلك خوفاً عظيماً ، ثم تنحى الأسد إلى جانب الطريق ، وحول أبو الحسن وجهه إلى القبلة وجعل يدعو ، ثم حرك شفتيه بما لم أفهمه ، ثم أومأ إلى الأسد بيده أن امض ، فهمهم الأسد همهمةً طويلةً وأبو الحسن يقول : آمين آمين ، وانصرف الأسد حتى غاب عن أعيننا ، ومضى أبو الحسن بوجهه واتبعته ، فلما بعدنا عن الموضع لحقته فقلت : جعلت فداك ما شأن هذا الأسد ؟ فلقد خفته والله عليك ، وعجبت من شأنه معك . قال : إنه خرج يشكو عسر الولادة على لبوته ، وسألني أن أدعو الله ليفرج عنها ، ففعلت ذلك ، وأُلقي في روعي أنها ولدت له ذكراً ، فخبرته بذلك ، فقال لي : امض في حفظ الله فلا يسلط الله عليك وعلى ذريتك وعلى أحد من شيعتك شيئاً من السباع ، فقلت : آمين (1) .
ونظيرها قصة الفرس مع أمير المؤمنين عليه السلام حين وصوله إلى المكان الخاوي وقول الفرس له : ( إنه قد حُفر ودبّر عليك ) قد رواها الشيخ الطبرسي (2) .
وكذا قول الطنبور له ، عليه السلام ، رواه المحدث القمي عن رسالة قبائح الخمر للأمير صدر الدين الدشتكي ، نقل أنه استمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يضرب بالطنبور ، فمنعه وكسر طنبوره ، ثم استتابه فتاب ، ثم قال : أتعرف ما يقول الطنبور حين يضرب ؟ فقال : وصي رسول الله أعلم ، فقال : إنه يقول :
سـتـنـد م سـتـنـدم أيـا صـاحـبـي * سـتـدخـل جـهـنـم أيـا ضـاربـي (3)
____________
1 ـ إرشاد المفيد 295 ـ 296 ، البحار 48 | 57 ـ 58 .
2 ـ الاحتجاج 1 | 60 .
3 ـ السفينة 2 | 519 ـ لها ـ . .
(236)
وكذا قول الحارث الهمداني : بينا أنا مع أمير المؤمنين . . في الحيرة إذا نحن بديراني يضرب بالناقوس ، قال : فقال : . . . يا حارث أتدري ما يقول هذا الناقوس ؟ . . إنه يضرب مثل الدنيا وخرابها ويقول : ( لا إله إلا الله حقا حقا ، صدقا صدقا ، إن الدنيا قد غرتنا ، وشغلتنا، واستهوتنا ، واستغوتنا يابن الدنيا مهلاً مهلاً ، يابن الدنيا دقّاً دقّاً ، يابن الدنيا جمعاً جمعاً ، تفنى الدنيا قرناً قرناً ) (1) ...
من عرف كلام السباع وغيرها كالمعصوم عليه السلام عرفه بصنوف اللغات ، ومعرفة سلامهن من أدناها ، وهو الإنسان الكامل ، الموهوبة له الولاية الكبرى والغاية من خلق الخلق ، والحجة الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها .
وهل الكائنات تعقل ردّ السلام على صاحب السلام غير المعصوم ؟ أو يقال بقصره على المعصوم دون غيره ؟ .
الجـواب :
إذا صحّ عقلاً وشرعاً سلامها ، صحّ ردّها أيضاً على غير المعصوم ، وأما هو فلا كلام فيه (2) ، ويشهد له ما جاء في نظائره ، ولا ريب في أن
____________
1 ـ معاني الأخبار 231 .
2 ـ وأعظم من السلام عليه التسليم له بكل معنى الكلمة ، وأن الحيوانات لأطوع للمعصوم عليه السلام من الإنسان ، فضلاً عن النباتات والجمادات .
ومن شواهد الأولى قصة النبي في بداية الزواج مع خديجة ، وطلبها منه التجارة إلى الشام من قبلها ، وتقديمها البعير الشديد المراس ، واعتراض عمه العباس ، وقول النبي : دعه يا عم ، فلما سمع البعير كلام البشير النذير برك على قدمي النبي ، وجعل يمرغ وجهه على قدمي النبي ، ونطق بكلام فصيح وقال : من مثلي وقد لمس ظهري سيد المرسلين ؟ فقلن النسوة اللاتي كن عند خديجة : ما هذا إلا سحر عظيم قد أحكمه هذا اليتيم ، قالت لهن خديجة : ليس هذا سحراً ، وإنما هو آيات بينات وكرامات ظاهرات ، ثم قالت :
نطـق البعـير بـفضل أحمـد مخـبرا * هـذا الـذي شرفـت بـه أم الـقـرى
هـذا محـمد خـيـر مـبعـوث أتـى * فـهو الـشفـيع وخـير مَن وطأ الثرى
يـا حاسديه تمـزَّقـوا من غيـظـكم * فـهو الحـبيـب ولا سواه في الـورى
البحار 16 | 27 ـ 28 ، باب تزويجه صلى الله عليه وآله بخديجة رضي الله عنها . . .
(237)
الشيء يستدل عليه بنظيره ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد (1) . فالنظائر شواهد . ومن تلك النظائر أيضاً :
شهادة البقاع للمتعبد عليها ، وبكاء السماء لموت المؤمن ، وتسبيح السبحة الحسينية بيد مسبحها ، واستغفار الكائنات لمعلم الخير ، ولطالب العلم . ونصّت عليها النصوص ، وخذ لبعضها منها مثالاً :
1 ـ « سأل أبو كهمس أبا عبد الله عليه السلام فقال : يصلي الرجل نوافله في موضع أو يفرقها ؟ قال : لا بل ههنا وههنا ، فإنها تشهد له يوم القيامة » (2) .
2 ـ الصادقي الآخر : « صلوا من المساجد في بقاع مختلفة ؛ فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة » (3) .
3 ـ النبوي : « يا أبا ذرّ ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة ، وما من منزل ينزله قوم إلاّ وأصبح ذلك المنزل يصلّي عليهم أو يلعنهم ، يا أبا ذرّ ما من صباح ولا رواح إلاّ وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضاً يا جارة : هل مرّ بك اليوم ذاكر لله ، أو عبد وضع جبهته عليك ساجداً لله تعالى ؟ ؟ فمن قائلة : لا ومن قائلة نعم ، فإذا قالت نعم اهتزّت وانشرحت وترى أنّ لها الفضل » (4) .
4 ـ الكاظمي : « إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة ، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها ، وأبواب السماء التي كان يصعد أعماله فيها » (5) .
ومن تلك النظائر التي تشهد على إمكان نطق الكائنات بل على وقوعه بوضوح :
1 ـ قال الصفَّار : حدّثنا أحمد بن محمد ، عن الحسن بن السعيد ، عن
____________
1 ـ مثل سائر على الألسن .
2 ـ الوسائل 3 | 472 .
3 ـ الوسائل 3 | 474 .
4 ـ الوسائل 3 | 474 .
5 ـ الوسائل 3 | 473 ، وفيه مثله .
(238)
حماد بن عيسى عن عبد الله ين ميمون القدّاح ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه عليه السلام ، قال : قال رسول الله : « من سلك طريقاً يطلب فيه علما سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به ، وإنه ليستغفر [ له ] من في السموات ومن الأرض حتى الحوت في البحر ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر . . . » (1) .
2 ـ الصادقي : « طالب العلم يستغفر له كلّ شيءٍ والحيتان في البحار والطير في جوّ السماء » (2) .
3 ـ الباقري : « إنّ جميع دواب الأرض لتصلي على طالب العلم حتى الحيتان في البحر » (3) .
4 ـ النبوي : « إنّ معلم الخير يستغفر له دواب الأرض وحيتان البحر وكل ذي روح في الهواء وجميع أهل السماء والأرض ، وإن العالم والمتعلم في الأجر سواء يأتيان يوم القيامة كفرسي رهان يزدحمان » (4) .
5 ـ الصادقي : « إن معلم الخير لتستغفر له دواب الأرض وحيتان البحر وكل صغيرة ، وكبيرة في أرض الله » (5) .
بـيـان :
قوله : « إن جميع دواب الأرض لتصلي على طالب العلم حتى الحيتان في البحر » تصريح بصلاة كل ذي روح ، حتى الحيتان على طالب العلم ،
____________
1 ـ بصائر الدرجات 23 .
2 ـ بصائر الدرجات 24 .
3 ـ بصائر الدرجات 24 .
4 ـ بصائر الدرجات 23 .
« مثل يضرب في المتساويين في الفضل والمجاراة . وقد جاء المثل في الباقري : « . . يخرج عليهم الخراساني والسفياني هذا من المشرق ، وهذا من المغرب يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان » غيبة النعماني ص 255 .
5 ـ بصائر الدرجات 24 .
(239)
والصلاة هي الدعاء المفسر به السلام على أحد معانيه السالف ذكرها (1) ، وكذلك استغفار الموجودات بأسرها لمعلم الخير ، وطالب العلم يثبت سلامها أيضاً ؛ إما لاشتراكها في المعاني ، بل يثبت تقديم السلام عليها تحكيماً لعموم دليل تقديمه على كل كلام ، إن قلنا : إن صلاة الكائنات واستغفارها من جنس الكلام والقول ، وقد سبق بيانه قريباً أو لأن الصلاة والاستغفار ، ووضع الملائكة أجنحتها أرفع من السلام ، ولا يفقد الأرفع الرفيع ، فيلزمها السلام ، وأما إذا قلنا بالاشتراك في ظاهرة حب الكائنات للإنسان المعلم للخير وطالب العلم بل لكل من أطاع الله تعالى فهي والسلام شرع سواء ، على أن بقاع الأرض الشاهدة لمن تعبد عليها في يوم القيامة (2) من شواهد حُسن السلام كما صرح بالسلام من الطرفين في حديث نختم به الكتاب : « إن علياً قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوجَّهني إلى اليمن لأصلح بينهم ، فقلت : يا رسول الله إنهم قوم كثير ، ولهم سنٌ وأنا شابٌّ حدثٌ ، فقال : يا علي إذا صرت بأعلى عقبة فناد بأعلى صوتك : ياشجر ، يا حجر ، يا مدر ، يا ثرى محمد رسول الله يقرؤكم السلام . قال : ذهبت فلما صرت بأعلى العقبة أشرفت على أهل اليمن ، فإذا هم مقبلون نحوي ، شاهرون سلاحهم مشرعون أسنتهم ، متنكبون قسيّهم ، فناديت بأعلى صوتي يا شجر ، يا مدر ، يا ثرى ، محمد رسول الله يقرؤكم السلام [ قال : ] فلم تبق شجرة ، ولا مدرة ، ولا ثرى إلا ارتج بصوت واحد : « وعلى محمد رسول الله ، وعليك السلام » فاضطربت قوائم القوم ، وارتعدت ركبهم ، ووقع السلاح من أيديهم ، وأقبلوا إليّ بالصلح مسرعين ، فأصلحت بينهم وانصرفت .(3)
وإلى هنا انتهى الكلام عن الفصول العشرة وخاتمتها بما فيها من الأسرار .
____________
1 ـ في غضون ( 2 ـ السلام تحية الله التي اختارها للمسلمين ) ، وغيره .
2 ـ الوسائل 3 | 472 ـ 474 . وقد تقدم بعض رواياتها وكذا نظائرها ، أرقامها : 1 ، 2 ، 3 .
3 ـ الخرائج لقطب الراوندي 2 | 492 ـ 493 .
(240)
اللهم يـا سلام اسلك بنا سُبُل السـلام ، وثبّتنا على الإيمان
بك وبرسولك ، والولاية للأئمة المعصومين ، والطاعة لهم
ولاسيما الإمام المهدي المبشّر بنشر العدل ، وإحياء
أحكام الإسلام ، عليهم أفضل الصلاة والسلام
واجمعنا معهم في دار السلام آمين ،
وآخر دعوانا ان الحمد لله
ربّ العالمين
*
*
*