بيـان :
قال العلامة المجلسي : ويدل على ما أجمع عليه أصحابنا من أنّ الأذان والإقامة بالوحي لا بالنوم كما ذهب إليه العامة ، وعلى ثبوت المعراج وهو معلوم متواتر ، وعلى كون أرواح الأنبياء في السماء في أجسادهم الأصلية ، أو المثالية على الخلاف ، وقد تكلمنا في جميع ذلك في كتابنا الكبير (1) ، وأما حضور الصلاة فالمراد أما صلاة أوجب الله عليه في ذلك الوقت ، وأوحى إليه أن أصلها في الأرض عند الزوال ، ووصل في السماء إلى (2) مكان يكون في المكان الذي يحاذيه في الأرض ، أول الزوال ، ويدل على جواز كون المؤذّن والمقيم غير الإمام ، وعلى جواز اتّحادهما ، وما ورد في التفريق لا يدلّ على التعيين (3) .
ويدلّ على إمامته ، صلى الله عليه وآله ، للنبيين في السماء ما جاء في تفسير قوله تعالى : ( وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون ) (4) .
من الباقري وسؤال نافع بن الأزرق ، صاحب هشام بن عبد الملك ، وممّا سأله أن قال نافع بعد تلاوة الآية :
« من ذا الذي سأل محمداً وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ! ؟ قال : فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريه من ءاياتنا ) (5) . فكان من الآيات التي أراها الله محمداً ، صلى الله عليه وآله ، حين أسرى به إلى بيت المقدس ، أن حشر الله الأوّلين والآخرين من النبيين ، والمرسلين ، ثم أمر جبرئيل فإذّن شفعاً ، وأقام شفعاً (6) ، ثم قال في
____________
1 ـ أي كتاب البحار ؛ لأنه أكبر كتاب صنفه طاب ثراه .
2 ـ البيت المعمور في السماء الرابعة ، يحاذي الكعبة في البيت الحرام ، وفيه ضراح مطاف الملائكة .
3 ـ مرآة العقول 15 | 81 .
4 ـ الزخرف : 45 .
5 ـ الإسراء : 1 .
6 ـ أي : اثنين اثنين .
(196)
إقامته : حيّ على خير العمل (1) ، ثم تقدّم محمد ، صلّى الله عليه وآله ، وصلى بالقوم (2) ، فأنزل الله عليه ( وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون ) الأية ، فقال لهم رسول الله ، صلّى الله عليه وآله ، : على ما تشهدون ؟ وما كنتم تعبدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وإنك رسول الله ، أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا ، قال نافع : صدقت يا بن رسول الله ، يا أبا جعفر ، أنتم والله أوصياء رسول الله ، وخلفاؤه في التوارة ، وأسماؤكم في الإنجيل ، وفي الزبور ، وفي القرآن ، وأنتم أحقّ بالأمر من غيركم » (3) .
بيـان :
دلّ الحديث الباقري الأول على أنّ إقامة الجماعة كانت في البيت المعمور المحاذي للكعبة ، والثاني على إقامتها في بيت المقدس .
الجواب : لا علم لنا بالمسامة ، والمحاذاة الحقيقية ، فلعلها يسع الفضاء للأمرين ، والعلم عند الله عزّ وجلّ . ولهم عليهم السلام تصاريف في الكلام يراعون حال المخاطبين في ، وله نظائر في أحاديثهم عليهم السلام لا مجال لذكرها .
ويمكن حمل الأول على إسراء ، والثاني على إسراء آخر ، كما احتمله ابن طاوس ، قال في بعض كلماته التي نقلها المجلسي في عدد الأنبياء هناك : لعل هذا الإسراء كان دفعة أخرى ، غير ما هو مشهور ، فإنّ الأخبار وردت مختلفة في صفات الإسراء ، ولعل الحاضرين من الأنبياء كانوا في هذه الحال ، دون الأنبياء الذين حضروا في الإسراء الآخر ، لأن الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ، ولعلّ الحاضرين من الأنبياء كانوا في هذه هم المرسلون (4) . . أو البيت المعمور هو المسجد الأقصى كما ذكره المجلسي
____________
1 ـ يعني هلم إلى الصلاة فإنها خير الأعمال .
2 ـ أي النبيين .
3 ـ تفسير القمي 2 | 284 ـ 285 ، تفسير الصافي 2 | 531 ـ 532 ، الاحتجاج | 59 ـ 60 ، روضة الكافي 120 ـ 121 .
4 ـ البحار 18 | 318 .
(197)
في الحديث العلوي فراجع تجده (1) .
ومن حديث المعراج لمّا بلغ جبرئيل بالنبيّ ، صلّى الله عليه وآله إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة ، فإذا جبرئيل ينصرف قلت : خليلي جبرئيل في مثل هذا المكان ! ـ أو في مثل هذه السدرة تخلفني وتمضي ؟ فقال : حبيبي والذي بعثك بالحق نبيّاً ، إنّ هذا المسلك ما سلكه نبيّ مرسل ، ولا ملك مقرّب ، أستودعك ربّ العزة . وما زلت واقفاً حتى قذفت في بحار النور ، فلم تزل الأمواج تقذفني من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة (2) إلى نور ، حتى أوقفني ربّي الموقف الذي أحبّ أن يقفني عنده من ملكوت الرحمن ، فقال عزّ وجلّ : يا أحمد قف ، فوقفت منتفضاً مرعوباً ، فنوديت من الملكوت : يا أحمد ، فألهمني ربّي فقلت : لبيك ربّي وسعديك ها أنا ذا عبدك بين يديك ، فنوديت : يا أحمد العزيز يقرأ عليك السلام ، قال : فقلت : هو السلام ومنه وإليه يعود السلام . . . (3) . . .
بيـان : الكلام الأخير يجدر ذكره في ( 1 ـ السلام اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ الحسنى ).
قد حان إنجاز الوعد لذكر سلام صلاة المعراح : وننقل لك رواية الشيخ الكليني من الكافي من باب النوادر في المعراج المطولة (4) : علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أُذينة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال : ما تروي هذه الناصبة ؟ فقلت : جعلت فداك في ماذا ؟ فقال : في أذانهم وركوعهم وسجودهم . فقلت : إنهم يقولون : إن أُبي بن كعب رآه في النوم ، فقال : كذبوا ، فإنّ دين الله عزّ وجلّ أعزّ من أن يُرى في النوم ، قال : فقال له سدير الصيرفي : جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : إن الله عزّ وجلّ لمّا عرج بنبيه ، صلى
____________
1 ـ البحار 18 | 394 .
2 ـ إذا قيل : نور وأنور فالفاقد للمزيد صحّ نسبة الظلمة إليه .
3 ـ البحار 18 | 13 .
4 ـ تفسيراً لسورة الإسراء : وقد كانت العروج في ليلة إحدى وعشرين من رمضان ، قبل الهجرة بستة أشهر وكان الإسراء . . . وفي ليلة 27 في رجب سنة 2 من الهجرة .
(198)
الله عليه وآله ، إلى سماواته السبع ، أما أوليهنّ فبارك عليه ، والثانية علمه فرضه ، فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور ، كانت محدقة بعرش الله ، تغشي أبصار الناظرين ، أمّا واحد منها فأصفر ، فمن أجل ذلك اصفرت الصفرة ، وواحد منها أحمر فمن أجل ذلك احمرت الحمرة ، وواحد منها أبيض فمن أجل ذلك ابيضّ البياض ، والباقي على سائر عدد الخلق من النور ؛ والألوان في ذلك المحمل حلق وسلاسل من فضة ، ثم عرج به إلى السماء ، فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرّت سجّداً وقالت : سبوح قدوس ما أشبه هذا النور بنور ربنا ، فقال جبرئيل عليه السلام : الله أكبر الله أكبر ، ثم فتحت أبواب السماء ، واجتمعت الملائكة ، فسلّمت على النبيّ ، صلى الله عليه وآله ، أفواجاً وقالت : يا محمد كيف أخوك إذا نزلت فاقرئه السلام ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله : أفتعرفونه ؟ قالوا : وكيف لا نعرفه ، وقد أخذ ميثاقك ، وميثاقه ، وميثاقه منا ، وميثاق شيعته إلى يوم القيامة علينا ، وإنا لنتصفح وجوه شيعته في كل يوم وليلة خمساً ـ يعنون في كل وقت صلاة ـ وإنا لنصلّي عليك وعليه ، [ قال : ] ، ثم زادني ربّي أربعين نوعاً من أنواع النور لا يشبه النور الأول ، وزادني حلقاً وسلاسل ، وعرج بي إلى السماء الثانية ، فلما قربت من باب السماء الثانية نفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً ، وقالت : سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح ، ما أشبه هذا النور بنور ربنا . فقال جبرئيل عليه السلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله . فاجتمعت الملائكة وقالت : يا جبرئيل من هذا معك ؟ قال : هذا محمد ، صلى الله عليه وآله ، قالوا : وقد بعث ؟ قال نعم ، قال النبي ، صلى الله عليه وآله ، : فخرجوا إلي شبه المعانيق (1) ، فسلموا علي ، وقالوا : اقرئ أخاك السلام ، قلت : أتعرفونه ؟ قالوا : وكيف لا نعرفه وقد أخذ ميثاقك ، وميثاقه ، وميثاق شيعته إلى يوم القيامة علينا ، وإنا لنتصفح وجوه شيعته في كل يوم وليلة خمساً ـ يعنون في كل وقت صلاة ـ قال : ثم زادني ربي أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه الأنوار الأولى ، ثم
____________
1 ـ المعانيق : جمع المعناق وهو الفرس الجيد العنق ، وفي الخبر « فانطلقنا إلى الناس معانيق أي : مسرعين » . مجمع البحري ـ عنق ـ .
(199)
عرج بي إلى السماء الثالثة ، فنفرت الملائكة وخرّت سُجّداً ، وقالت : سبوح قدوس ، ربّ الملائكة والروح ، ما هذا النور الذي يشبه نور ربِّنا ؟ فقال جبرئيل عليه السلام : أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أنّ محمداً رسول الله . فاجتمعت الملائكة وقالت : مرحباً بالأوّل ، ومرحباً بالآخر ، ومرحباً بالحاشر ، ومرحباً بالناشر (1) ، محمد خير النبيين ، وعلي خير الوصيين .
قال النبي ، صلى الله عليه وآله ، : ثم سلّموا عليّ وسألوني عن أخي ، قلت : هو في الأرض ، أفتعرفونه ؟ قالوا : وكيف لا نعرفه ، وقد نحجّ البيت المعمور كل سنة ، وعليه رق أبيض (2) ، فيه اسم محمد ، واسم علي ، والحسن ، والحسين ، [ والأئمة ] عليهم السلام ، وشيعتهم إلى يوم القيامة ، وإنا لنبارك عليهم كل يوم وليلة خمساً ـ يعنون في وقت كل صلاة ـ ويمسحون رؤوسهم بأيديهم ، قال : ثم زادني ربي أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه تلك الأنوار الأولى ، ثم عرج بي حتى انتهيت إلى السماء الرابعة ، فلم تقل الملائكة شيئاً ، وسمعت دوياً كأنه في الصدور ، فاجتمعت الملائكة ففتحت أبواب السماء ، وخرجت إلي شبه المعانيق ، فقال جبرئيل عليه السلام : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، فقالت الملائكة : صوتان مقرونان معروفان ، فقال جبرئيل عليه السلام : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، فقالت الملائكة : هي لشيعته إلى يوم القيامة ، ثم اجتمعت الملائكة وقالت : كيف تركت أخاك ؟ فقلت لهم : وتعرفونه ؟ قالوا : نعرفه وشيعته ، وهم نور حول عرش الله وإن في البيت المعمور لرقّاً من نور ، [ فيه كتاب من نور ] ، فيه اسم محمد ، وعلي ، والحسن ، والحسين ، والأئمة ، وشيعتهم إلى يوم القيامة ، لا يزيد فيه رجل ، ولا ينقص منهم رجل ، وإنه لميثاقنا ، وإنه ليقرأ علينا كل يوم جمعة
____________
1 ـ الحاشر من ألقاب النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فلمقارنته عليه الصلاة والسلام مع الحشر كما قال : « أنا والساعة كهاتين » وأشار إلى السبابة والوسطى . والناشر من ألقاب أمير المؤمنين عليه السلام ، لأنّ الناشر بمعنى المفرق ، وهو عليه السلام يفرق بين أهل الجنة ، والنار . قال المجلسي رحمه الله : مرحباً بالحاشر أي من يتصل زمان أمته بالحشر . ومرحباً بالناشر أي بمن ينشر قبل الخلق وإليه الجمع والحساب كما تسمعه في المتن .
2 ـ الرق ـ بالكسر ـ : جلد رقيق يكتب فيه . والصحيفة البيضاء هامش الكافي 3 | 484 .
(200)
ثم قيل لي : ارفع رأسك يا محمد ، فرفعت رأسي فإذا أطباق السماء قد خرقت ، والحجب قد رفعت ، ثم قال لي : طأطىء رأسك انظر ما ترى ؛ فطأطأت رأسي ، فنطرت إلى بيت مثل بيتكم هذا ، وحرم مثل حرم هذا البيت ، لو ألقيت شيئاً من يدي لم يقع إلا عليه ، فقيل لي : يا محمد إن هذا الحرم وأنت الحرام ولكل مثل مثال ، ثم أوحى الله إلي : يا محمد ادن من ( صاد ) ، فاغسل مساجدك وطهرها ، وصلّ لربّك فدنى رسول الله من ( صاد ) وهو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن ، فتلقى رسول الله صلّى الله عليه وآله الماء بيده اليمنى ، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين ، ثم أوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اغسل وجهك ، فإنك تنظر إلى عظمتي ، ثم اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى . فإنك تلقى بيدك كلامي ، ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يديك من الماء ، ورجليك إلى كعبيك ، فإنّي أبارك عليك ، وأوطئك موطئاً لم يطأه أحد غيرك ، فهذا علة الأذان والوضوء . ثم أوحى الله عزّ وجلّ إليه يا محمد استقبل الحجر الأسود ، وكبرني على عدد حجبي ، فمن أجل ذلك صار التكبير سبعاً ، لأن الحجب سبع ، فافتتح عند انقطاع الحجب فمن أجل صار الافتتاح ستة . والحجب متطابقة بينهن بحار النور ، وذلك النور الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله ، فمن أجل ذلك صار الافتتاح ثلاث مرات لافتتاح الحجب ثلاث مرات ، فصار التكبير سبعاً ، والافتتاح ثلاث ، فلما فرغ من التكبير والافتتاح أوحى الله إليه سم باسمي ، فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ، ثم أوحى الله إليه أن أحمدني ، فلما قال : الحمد لله رب العالمين ، قال النبي في نفسه : شكراً ، فاوحى الله عزّ وجلّ إليه قطعت حمدي ، فسم باسمي ، فمن أجل ذلك جعل في الحمد الرحمن الرحيم مرتين ، فلما بلغ ولا الضالّين قال النبي صلى الله عليه وآله : الحمد لله رب العالمين شكراً ، فأوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ قطعت ذكري فسم باسمي ، فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ، ثم أوحى الله عزّ وجلّ إليه اقرأ يا محمد نسبة ربّك تبارك وتعالى : ( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد ) ، ثم أمسك عنه الوحي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : الواحد الأحد الصمد ،
(201)
فأوحى الله إليه : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، ثم أمسك عنه الوحي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : كذلك الله كذلك [ الله ] ربنا ، فلما قال ذلك ، أوحى الله إليه اركع لربك يا محمد ، فركع ، فأوحى الله إليه وهو راكع قل : سبحان ربي العظيم ، ففعل ذلك ثلاثاً ، ثم أوحى الله إليه أن ارفع رأسك يا محمد ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقام منتصباً ، فاوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اسجد لربك يا محمد ، فخر رسول الله صلى الله عليه وآله ساجداً ،
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ، قل : سبحان ربّي الأعلى ، ففعل ذلك ثلاثاً ، ثم أوحى الله إليه استوِ جالساً يا محمد ، ففعل ، فلما رفع رأسه من سجوده واستوى جالساً ، نظر إلى عظمته تجلت له ، فخرّ ساجداً من تلقاء نفسه ، لا لأمر أمر به ، فسبح أيضاً ثلاثاً ، فأوحى الله إليه انتصب قائماً ، ففعل ، فلم ير ما كان رأى من العظمة ، فمن أجل ذلك صارت الصلاة ركعة وسجدتين ، ثم أوحى الله عز وجل إليه اقرأ بالحمد لله ، فقرأها مثل ما قرأ أوّلاً ، ثم أوحى الله عز وجل إليه اقرأ إنّا أنزلناه ، فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة ، وفعل في الركوع مثل ما فعل في المرة الأولى ، ثم سجد سجدة واحدة ، فلما رفع رأسه تجلت له العظمة ، فخرّ ساجداً من تلقاء نفسه ، لا لأمر أمر به فسبح أيضاً ، ثم أوحى الله إليه أرفع رأسك يا محمد ، ثبّتك ربّك ، فلما ذهب ليقوم قيل : يا محمد اجلس ، فجلس ، فأوحى الله إليه يا محمد إذا ما أنعمت عليك فسم باسمي ، فألهم أن قال : بسم الله وبالله ولا إله إلا الله والأسماء الحسنى كلها لله ، ثم أوحى الله إليه يا محمد صل على نفسك ، وعلى أهل بيتك ، فقال : صلى الله عليّ ، وعلى أهل بيتي ، وقد فعل ، ثم التفت فإذا صفوف من الملائكة والمرسلين والنبيين فقيل : يا محمد سلّم عليهم ، فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فأوحى الله إليه أنّ السلام والتحية والرحمة والبركات أنت وذرّيّتك ، ثم أوحى الله إليه أن لا يلتفت يساراً ، وأول آية سمعها بعد قل هو الله أحد ، وإنا أنزلناه آية أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فمن أجل ذلك كان السلام واحدة تجاه القبلة ، ومن أجل ذلك كان التكبير في السجود شكراً ، وقوله : سمع الله لمن حمده ، لأن النبي صلى الله عليه وآله سمع ضجة الملائكة بالتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، فمن
(202)
أجل ذلك قال : سمع الله لمن حمده ، ومن أجل ذلك صارت الركعتان الأوليان كلما أحدث فيهما حدثاً كان على صاحبهما إعادتهما ، فهذا الفرض الأول في صلاة الزوال يعني صلاة الظهر » (1) .
أقول : جئنا على رواية المعراج عن آخرها ، لاشتمالها على بدئ الأذان ، وصلاة الزوال أي الظهر المعنية بها الصلاة الوسطى في آية ( حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى ) (2) ، وعلى سرِّ التسليم في الصلوات .
وللرواية شرح وبسط لا بأس بالإشارة إليه ، إذ فيه بيان سرّ السلام فيها ، وبيان موضعه منها ، قال العلامة المجلسي في كتابه مرآة العقول عند شرح رواية المعراج :
قوله عليه السلام : « إنّ أُبيّ بن كعب رآه في النوم » أقول : لا خلاف بين علمائنا في أن شرعية الأذان كانت بالوحي لا بالنوم ، قال في المعتبر والمنتهى : الأذان عند أهل البيت عليهم السلام ، وحي على لسان جبرئيل علّمه ـ رسول الله صلى الله عليه وآله ـ عليّاً ـ عليه السلام ـ وأطبق الجمهور على خلافه ، ورووا أنه برؤيا عبد الله بن زيد وعمر .
أقول (3) : وفي روايات المخالفين أن المسلمين حين قدموا المدينة كانوا يجتمعون ويتحينون الصلوات ، وكان لا ينادي بها أحد ، فشاوروا بينهم ، أو مع النبي صلى الله عليه وآله في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً كالنصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، وعن أنس : تنوروا ناراً ، وقال آخرون : النار والبوق شعار اليهود ، والناقوس شعار النصارى . فتلتبس أوقاتنا بأوقاتهم . فقال عبد الله بن زيد : إني رأيت الأذان في المنام ، وقيل : إن أُبياً قال : رأيته في النوم ، وقيل : إن عمر قال مثل ذلك ، فقال عمر عند ذلك : أوَ لاتبعثون رجلاً ينادي بألفاظ الأذان .
____________
1 ـ الكافي 3 | 482 ـ 486 ، ولخصها الشيخ الحر في إثبات الهداة 1 | 155 .
2 ـ البقرة : 238 .
3 ـ القائل هو الشيخ المجلسي طاب ثراه .
(203)
أقول : قاتلهم الله كيف هونوا (1) بأحكام الله ، ليتهيأ لهم القياس ، والاستحسان في دين الله .
ثم إن هذا الخبر يدل على أن بالنوم لا تثبت الأحكام ، ويمكن أن يخص بابتداء شرعيتها ، ورأيت في بعض أجوبة العلامة رحمه الله عما سئل عنه تجويز العمل بما يسمع في المنام عن النبي ، والأئمة عليهم السلام ، إذا لم يكن مخالفاً للإجماع ، لما روي من أن الشيطان لا يتمثل بصورتهم وفيه إشكال .
قوله عليه السلام : « فأنزل الله » هذا تفصيل لما أجمل سابقاً ، وعود إلى أول الكلام ، كما سيظهر مما سيأتي ، فالفاء للتفصيل لا للتعقيب ، والأنوار تحتمل الصوريَّة والمعنوية ، والأعم منهما ، وأما نفرة الملائكة فلغلبة النور على أنوارهم ، وعجزهم عن إدراك الكمالات التي أعطاها الله نبيّنا صلى الله عليه وآله ، كما قال صلى الله عليه وآله : « لي مع الله وقت لا يسعني ملك مقرب ولا نبيّ مرسل » الخبر . ويؤيّد المعنويّة قول الملائكة : ما أشبه هذا النور بنور ربّنا ، وعلى تقدير أن يكون المراد الصوريّة ، فالمعنى ما أشبه هذا النور بنور خلقه الله في العرش ، وعلى التقديرين لمّا كان كلامهم وفعلهم موهماً لنوع من التشبيه ، قال جبرئيل : الله أكبر تنزيهاً له عن تلك المشابهة ، أي : أكبر من أن يشبهه أحد ويعرفه ، وقد مرّ تفسير الأنوار في شرح كتاب التوحيد ، والتكرير للتأكيد ، أو الأوّل لنفي المشابهة ، والثاني لنفي الإدراك .
وقال الجزري : « سبوح قدّوس » يرويان بالضمّ والفتح ، والفتح أقيس ، والضمّ أكثر استعمالاً ، وهو من أبنية المبالغة ، والمراد بهما التنزيه .
وتثنية التكبير (2) يمكن أن اختصاراً من الراوي ، أو الزيادة بوحي آخر . . . أو يكون من النبيّ صلّى الله عليه وآله ، كزيادة الركعات
____________
1 ـ هكذا في الأصل والصحيح « تهاونوا » .
2 ـ يريد قول جبرائيل : « الله أكبر الله أكبر » في هذا الخبر أول كلمات الأذان والمعروف أن التكبير أربعة في أوله . والظاهر أنه الأذان انظر كمال الدين 1 | 255 .
(204)
بالتفويض ، أو يكون التكبيران الأوّلان خارجين عن الأذان كما يؤمي إليه ما رواه الفضل بن شاذان من العلل عن الرضا عليه السلام ، وبه يجمع بين الأخبار . والأظهر أن الغرض في هذا الخبر بيان الإقامة وأطلق عليها الأذان مجازاً ، ويمكن أن يكون سؤالهم عن البعثة لزيادة الاطمئنان كما في سؤال إبراهيم ـ عليه السلام ـ إذ تصفح وجوه شيعة أخيه في وقت كل صلاة ، موقوف على العلم بالبعثة ، ويمكن أن يكون قولهم : « وإنا لنتصفّح » إخباراً عمّا أمروا به أن يفعلوه بعد ذلك ، ويؤيّده عدم وجوب الصلاة قبل ذلك كما هو الظاهر . وإن أمكن أن يكون هذا في معراجٍ تحقق بعد وجوب الصلاة ، لكنه بعيد عن سياق الخبر ، ويحتمل أيضاً أن يكون عرفوه ، صلى الله عليه وآله ، وعرفوا وصيّه ، وشيعة وصيّه ، بأنهم يكونون كذلك ، ولذا كانوا يتصفّحون وجوه شيعته في أوقات الصلاة ، ليعرفوا هل وجبت عليهم صلاة أم لا ، فلا ينافي عدم علمهم بالبعثة ، وفيه أيضاً بُعدٌ ، ويحتمل أن يكون التصفّح كناية عن رؤية أسمائهم في رق البيت المعمور كما سيأتي ، أو عن رؤية أشباحهم ، وأمثلتهم حول العرش ، كما يؤمي إليه قولهم : « وهم نور حول العرش » ، وقريب منه ما ذكره بعض الأفاضل ، أنّ علمهم به ، وبأخيه ، وشيعته ، وأحوالهم فوق أحوال عالم الحسّ ، وهو العالم الذي أخذ عليهم فيه الميثاق ، والعلم فيه لا يتغيّر ، وهذا لا ينافي جهلهم ببعثه في عالم الحسّ الذي يتغيّر العلم فيه .
أقـول : هذا موقوف على مقدمات مباينة لطريقة العقل .
قوله عليه السلام : « مرحباً بالأوّل » أي : خلقاً ورتبةً ، والرُحب بالضمّ : السعة . وانتصاب « مرحباً » بفعل لازم الحذف كأهلاً وسهلاً أي : أتيت وصادقت رُحباً وسعةً . . « مرحباً بالآخر » أي ظهوراً وبعثة . « ومرحباً بالحاشر » أي : بمن يتّصل زمان أمته بالحشر . « ومرحباً بالناشر » أي : بمن ينشر قبل الخلق وإليه الجمع والحساب . وقد بيّنا جميع ذلك في الكتاب الكبير ـ أي البحار ـ . والرقّ بالفتح ويكسر : جلد رقيق يكتب فيه والصحيفة البيضاء . ودوي الريح والطائر والنحل : صوتها ، صوتان مقرونان ، كونهما مقرونين لأنّ الصلاة مستلزمة للفلاح وسبب له .
(205)
وفي العلل : بعد ذلك بمحمد صلّى الله عليه وآله تقوم الصلاة ، وبعليّ الفلاح . ويحتمل أن تكون هاتان الفقرتان مفسّرتين للسابقتين ، والغرض بيان اشتراط قبول الصلاة وصحّتها بولايتهما ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في بعض الأخبار من تفسير الصلاة والعبادات بهم أي : الصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، والفلاح أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وهما متحدان من نور واحد ، مقرونان قولاً وفعلاً ، وبما فسّر في هذا الخبر يظهر سرّ تلك الأخبار ومعناها ، والضمير في قوله : « لشيعته » راجع إلى الرسول ـ على ما في العلل ـ أو إلى عليّ صلوات الله عليهما . وترك « حيّ على خير العمل » الظاهر أنّه من الإمام ، أو من الرواة تقيّة ، ويحتمل أن يكون قرّر بعد ذلك كما مرّ ويؤيده عدم ذكر بقية فصول الأذان ، ويحتمل أن يكون خرق الأطباق والحجب من تحته ، صلى الله عليه وآله ، أو من فوقه ، أو منهما معاً ، وأيضاً يحتمل أن يكون هذا في السماء الرابعة ، أو بعد عروجه إلى السابعة ، والأخير أوفق بما بعده ، فعلى الأوّل إنّما خرقت الحجب من تحته لينظر إلى الكعبة ، وإلى البيت المعمور ، فلما نظر إليهما وجدهما متحاذين ، متطابقين ، متماثلين ، ولذا قال : « ولكل مثل مثال » أي : كلّ شيءٍ في الأرض له مثال في السماء ، فعلى الثاني يحتمل أن تكون الصلاة تحت العرش محاذياً للبيت المعمور بعد النزول ، وعلى التقديرين استقبال الحجر مجازاً ، أي : استقبل ما يحاذيه أو ما يشاكله ويشبهه .
قوله : « وأنت الحرام » أي : المحترم المكرم ، ولعله إشارة إلى أن حُرمة البيت إنما هي لحرمتك ، كما ورد في غيره .
قوله : « صار الوضوء » في العلل صار أوّل الوضوء ، ويدلّ على استحباب أخذ ماءِ الوضوء أوّلاً باليمنى ، وعلى ما هنا يمكن أن يفهم منه استحباب الإرادة .
قوله تعالى : ( وعلى عدد حجبي ) وفي العلل بعدد حجبي ، فمن أجل ذلك صار التكبير سبعاً، لأن الحجب سبعة ، وافتتح القراءة عند انقطاع الحجب ، فمن أجل ذلك صار الافتتاح ستَّة ، والحجب مطابقة ثلاثة بعدد النور الذي نزل على محمد ثلاث مرّات ، فلذلك كان الافتتاح ثلاث مرّات ،
(206)
ومن أجل ذلك كان التكبير سبعاً ، والافتتاح ثلاثاً ؛ فلمّا فرغ من التكبير والافتتاح قال الله عزّ وجلّ : الآن وصلت إلي فسمّه باسمي ، فقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » إلى آخره .
الظاهر : أنّ المراد بالحجب هنا غير السموات ، كما يظهر من سائر الأخبار ، وأنَّ ثلاثة منها متلاصقة ، ثم تفصل بينهما بحار النور ، ثم اثنان منها متلاصقان ، ثم تفصل بينهما بحار النور ، ثم اثنان ملتصقان ، فلذا استحبّ التوالي بين ثلاث من التكبيرات ، ثم الفصل بالدعاء ، ثم بين اثنين ثم الفصل بالدعاء ، ثم يأتي باثنتين متصلتين . فكل شروع في التكبير ابتداء افتتاح . وحمل الوالد العلامة ( ره ) ، الأفتتاح ثلاثاً على تكبيرة الإحرام، التي هي افتتاح القراءة ، وتكبير افتتاح الركوع ، وتكبير افتتاح السجود ، ولعل ما ذكرنا أظهر .
وقوله : « شكراً ثانياً » : يحتمل أن يكون كلام الإمام عليه السلام ، أي قال النبي صلّى الله عليه وآله على وجه الشكر : « الحمد الله ربّ العالمين » ، والظاهر أنّه من تتمّة التحميد ، ويؤيد الأول أنه ورد تحميد المأموم في هذا المقام بدون هذه التتمَّة . ويؤيد الثاني أنّه ، صلّى الله عليه وآله ، أضمر شكراً عند قوله : « الحمد لله ربّ العالمين » أوّلاً ، ويدلّ على استحباب التحميد في هذا المقام للإمام والمنفرد أيضاً ، ولعله خص بعد ذلك بالمأموم .
قوله عليه السلام : « قطعت » لعلّه لمّا كانت سورة الفاتحة بالوحي ، وانقطع الوحي بتمامها ، وحمد الله من قبل نفسه ، قال الله تعالى لما قطعت القراءة بالحمد فاستأنف البسملة ، فالمراد بالذكر القرآن .
قوله عليه السلام : « نسبة ربّك » في العلل « فقال له اقرأ قل هو الله أحد كما أنزلت ، فإنها نسبتي ونعتي » فيدلّ على تغيير في سورة التوحيد .
قوله تعالى : « فإنها نسبتك » أي : مبينة شرفك وكرامتك ، وكرامة أهل بيتك ، أو مشتملة على نسبتك ، ونسبتهم إلى الناس ، وجهة احتياج الناس إليك وإليهم ، فإن نزول الملائكة والروح بجميع الأمور التي يحتاج الناس
(207)
إليها ، إذا كان إليك وإليهم ، فبهذه الجهة أنهم محتاجون إليك وإليهم .
قوله تعالى : « إن السلام » في العلل : « إني أنا السلام والتحية » فلعل التحية معطوفة على السلام تفسيراً وتأكيداً .
وقوله « والرحمة » مبتدأ أي : أنت المراد بالرحمة ، وذريتك بالبركات ، أو المراد أن كلامهم رحمة وبركات ، ويحتمل أن يكون قوله « والتحية » مبتدأ ، وعلى التقادير حاصل المعنى : سلام الله وتحيته ورحمته وشفاعة محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم ودعاؤهم وهدايتهم وإعانتهم عليكم : أي لكم .
قوله : « تجاه القبلة » أي من غير التفات إلى اليسار أو اليمين أيضاً كثيراً ، بأن يحمل ما فعله ، صلى الله عليه وآله ، على الالتفات القليل ، ويؤيده قوله عليه السلام « أن لا تلتفت يساراً » وما قيل من أنه رأى الملائكة والنبيين تجاه القبلة ، فسلم عليهم مرة ، لأنهم المقربون ، ليسوا من أصحاب اليمين ، ولا من أصحاب الشمال ، فلا يخفى ما فيه ؛ إذ الظاهر أنهم كانوا مؤتمّين به صلى الله عليه وآله .
قوله عليه السلام : « كان التكبير في السجود شكراً » لعل المعنى أنه ، صلى الله عليه وآله ، لما كان هويّه إلى السجود لمشاهدة عظمته ، تجلت له ، كبّر قبل السجود شكراً لتلك النعمة كما قال تعالى :
( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) (1) أي على ما هدى ، وفي العلل ومن أجل ذلك صار التسبيح في السجود والركوع شكراً وهو أظهر كما لا يخفى .
قوله عليه السلام : « في صلاة الزوال » وفي العلل : « وهي الفرض الأول وهي أول ما فرضت عند الزوال » ولعل المعنى أن هذه الصلاة التي فرضت ، وعلمها الله نبيه في السماء ، إنما فرضت وأوقعت أولاً في الأرض عند الزوال ، فلا يلزم أن يكون إيقاعها في السماء عند الزوال ، مع أنه
____________
1 ـ البقرة : 185 .
(208)
يحتمل أن يكون النبي ، صلى الله عليه وآله ، في ذلك الوقت محاذياً لموضع يكون في الأرض وقت الزوال ، لكنه بعيد ، إذ الظاهر من الخبر أنها أوقعت في موضع كان محاذياً لمكّة ، ولمّا كان الظاهر من الأخبار تعدّد المعراج ، فيمكن حمل هذا الخبر على معراج وقع في اليوم ، وبهذا الوجه يمكن التوفيق بين أكثر الأخبار المختلفة الواردة في كيفية المعراج ، ثم إنه يظهر من هذا الخبر أن الصلاة [ لما كانت ] معراج المؤمن ، فكما (1) أن النبي ، صلى الله عليه وآله ، لمّا نفض عن ذيله الأطهر علائق الدنيا ، وتوجه إلى عرش القرب والوصال ومكالمة الكبير المتعال ، وكلّما خرق حجاباً من الحجب الجسمانيّة كبّر الربّ تعالى ، وكشف بسببه حجاباً من الحجب العقلائية حتى وصل إلى العرش (2) العظمة والجلال ، ودخل مجلس الأنس والوصال ، فبعد رفع الحجب المعنوية بينه وبين مولاه كلمه وناجاه ، فاستحقّ لأن يتجلّى له نور من أنوار الجبروت ، فركع وخضع لذلك النور ، فاستحقّ أن يتجلى عليه نور أعلى منه ، فرفع رأسه وشاهده وخر ساجداً لعظمته ، ثم بعد طيِّ تلك المقامات ، والوصول إلى درجة الشهود والاتصال بالربّ الودود ، رفع له الأستار من البين ، وقربه إلى مقام قاب قوسين ، فأكرمه بان يقرن اسمه باسمه في الشهادتين ، ثم حباه بالصلاة عليه ، وعلى أهل بيته المصطفين ، فلمّا لم يكن بعد الوصول إلا السلام ، أكرمه بهذا الإنعام ، وأمره أن يسلّم على مقرّبي جنابه ، الذين فازوا قبله بمثل هذا المقام تشريفاً لهم بإنعامه ، وتأليفاً بين مقرّبي جنابه ، أو أنّه لمّا أذنه بالرجوع عن مقام « لي مع الله » (3) الذي لا يرحمه فيه سواه ، ولم يكن يخطر بباله غير مولاه ، التفت إليهم فسلَّم عليهم ، كما يؤمي إليه هذا الخبر . فكذا ينبغي للمؤمن إذا أراد التوجه إلى جنابه تعالى بعد تشبثه بالعلائق الدنيّة ، وتوغّله في العوائق الدنيوية ، أن يدفع [ عنه ] عند الأنجاس الظاهرة والباطنة ، ويتجلى بما يستر
____________
1 ـ يحتمل أن يكون « فكما » جواب « لما » أي أن الصلاة معراج المؤمن ، كما أن النبي صلى الله عليه وآله أزال العلائق الدنيوية كلها عن نفسه . أو يكون الجواب « توجه إلى عرش القرب ... » والواو زائدة .
2 ـ كذا . والصحيح « عرش العظمة » .
3 ـ حديث مشهور لم أجد له مصدراً في مجامع الحديث .
(209)
عوراته الجسمانيّة والروحانيّة ، ويتعطّر بروائح الأخلاق الحسنة ، ويتّطهر من دنس الذنوب والأخلاق الذميمة ، ويخرج من بيته الأصنام ، والكلاب ، والصور ، والخمور الصورية ، وعن قلبه صور الأغبار ، وكلب النفس الأمارة ، وشكر الملك ، والمال ، والعزّ ، والأصنام ، وحب الذهب ، والفضة ، والأموال ، والأولاد ، والنساء ، وسائر الشهوات الدنيوية ، ثم يتذكر بالأذان والإقامة ما نسيه بسبب الاشتغال بالمشهيات ، والأعمال ، من عظمة الله تعالى ، وجلاله ، ولطفه ، وقهره ، وفضل الصلاة ، وسائر العبادات ، مرة بعد أخرى ، ويتذكر أمور الآخرة ، وأهوالها ، وسعادتها ، وشقاواتها ، عند الاستنجاء ، والوضوء ، والغسل ، وأدعيتها ، إذا علم أسرارها ، ثم يتوجه إلى المساجد التي هي بيوت الله في الأرض ، ويخطر بباله عظمة صاحب البيت وجلاله ، إذا وصل إلى أبوابها ، فلا يكون عنده أقل عظمة من أبواب الملكوت الظاهرة ، التي إذا وصل إليها ، دُهش ، وتخيّر ، وارتعد ، وخضع ، واستكان ، فإذا دخل المسجد ، وقرب من المحراب الذي هو محلّ محاربة النفس والشيطان ، يستعيذ بالكريم الرحمن من شرورهما وغرورهما ، ويتوجه بصورته إلى بيت الله ، وبقلبه إلى الله ، وأعرض عن كل شيءٍ سواه ، ثم يستفتح صلاته بتكبير الله وتعظيمه ، ليضمحلّ في نظره من عداه ، ويخرق بكلّ تكبير حجاباً من الحجب الظلمانيّة الراجعة إلى نقصه ، والنورانية الراجعة إلى كمال معبوده ، فيقبل تلك المعرفة والأنقياد والتسليم بشراشره إلى العليم الحكيم ، ويستعين في أموره باسم المعبود الرحمن الرحيم ، ويحمده على نعمائه ، وقرباته ربّ العالمين ، وأخرجه من كتم العدم إلى أن أوصله إلى مقام العابدين ، ثم بأنه الرحمن الرحيم ، وبأنه مالك يوم الدين ، ويجزي المطيعين والعاصين ، فإذا عرفه بهذا الوجه استحق لأن يرجع من مقام الغيبة إلى الخطاب ، مستعيناً بالكريم الوهاب ، ويطلب منه الصراط المستقيم ، وصراط المقربين ، والأنبياء ، والأئمّة المكرمين ، مقرّاً بأنّهم على الحق واليقين ، وإن أعداءهم ممّن غضب الله عليهم ولعنهم ومن الضالّين ، ويتبرّأ منهم ومن طريقتهم تبرّء الموقنين ، ثم يصفه سبحانه لتلاوة التوحيد بالوحدانية ، والتنزيه عمّا لا يليق بذاته وصفاته ، فإذا عبد ربّه بتلك الشرائط ، وعرفه بتلك الصفات ، يتجلّى له نور من أنوار الجلال ، فيخضع لذلك
(210)
بالركوع والخشوع ، ويقرّ بأني أعبدك وإن ضربت عنقي ، ثم بعد هذا الخضوع والانقياد يستحق معرفة أقوى ، ويناسبه خضوع أدنى ، فيقرّ بأنك خلقتني من التراب ، والمخلوق منه خليق بالتذلل عند ربّ الأرباب ، ثم بأنك تعيدني بعد الموت إلى التراب ، فيناسب تلك الحالة خضوع آخر ، فإذا عبد الله بتلك الآداب إلى آخر الصلاة ، وخاض في خلال ذلك بحار جبروته ، واكتسب أنوار فيضه ومعرفته ، وصل إلى مقام القرب والشهود ، فيقر بوحدانيّة معبوده ، ويثني على مقربي جنابه ، ثم يسلّم عليهم بعد الحضور والشهود ، وفي هذا المقام لطائف ودقائق ، لا يسع المقام ذكرها ، وأوردنا شذراً منها في بعض مؤلّفاتنا ، وإنما أومأنا ههنا إلى بعضها لمناسبة شرح الرواية ، والله وليّ التوفيق والهداية (1) .
أقول : إنما جئنا على شرح رواية الكليني ، طاب ثراه ، من المجلسي رحمه الله عن آخره لاشتماله على شرحها الوافي ، وعلى سرّ السلام على من أمره الله تعالى بقوله عليه السلام : « ثم التفت فإذا بصفوف من الملائكة والمرسلين والنبيين فقيل : يا محمد سلّم عليهم ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فأوحى الله إليه أنّ السلام والتحية والرحمة والبركات أنت وذرّيّتك » (2) .
وقال المجلسي : وفي العلل : « إني أنا السلام والتحية » : وحاصل المعنى : سلام الله وتحيته ، ورحمته ، وشفاعة محمد ، وأهل بيته صلوات الله عليهم ، ودعاؤهم ، وهدايتهم ، وإعانتهم عليكم : أي لكم (3) .
ويستفاد من بعض الروايات أن الله عزّ وجلّ سلّم على النبيّ ، صلّى الله عليه وآله ، ثم سلم النبي ، صلى الله عليه وآله ، على نفسه وعلى عباد الله الصالحين ، ثم سلم الله تعالى عليهم أجمعين ؛ وإليك الإشارة إلى بعض هذه التسليمات كما في جامع الأحاديث قال : وفي رواية إسحق ( في ضمن ذكر قصة صلاة المعراج ) قوله عليه السلام : « فاستقبل رسول الله
____________
1 ـ مرآة العقول 15 | 468 ـ 480 .
2 ـ نفس الرواية المتقدمة .
3 ـ من شرح المجلسي لها ، فراجع .
(211)
صلى الله عليه وآله ربه تبارك وتعالى مطرقاً فقال : السلام عليك » (1) .
وفي المقنع : ثم سلم وقل : « اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، ولك السلام ، وإليك يعود السلام ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام على الأئمة الراشدين المهديين ، السلام على جميع أنبياء الله ، ورسله ، وملائكته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا كنت إماماً فسلم وقل : السلام عليكم مرة واحدة وأنت مستقبل القبلة ، وتميل بعينك [ بعينيك ] إلى يمينك ، وإن لم تكن إماما فقل : السلام عليكم وتميل بأنفك إلى يمينك ، وإن كنت خلف إمام تأتمّ به ، فتسلّم تجاه القبلة واحدة ردّاً على الإمام ، وتسلم على يمينك واحدة ، وعلى يسارك واحدة ، إلاّ أن لا يكون على يسارك أحد ، فلا تسلم على يسارك ، إلا أن بجنب الحائط فتسلم على يسارك ولا تدع التسليم على يمينك كان على يمينك أحد أو لم يكن » (2) .
بيـان :
في تسليمات الصلاة أسرار كثيرة ، قد جاءت الإشارة إلى بعضها في أحاديث سلام الصلاة ، وقد سبق الصادقي منها أنه الأمان من إبطال الصلاة وعما يفسدها (3) ، وأنه يأمن المسلّم والمسلّم عليه من شرّ كلّ إلى كلٍّ (4) ، هذا في غير الصلاة ، وأما فيها فكما دريت معنى الأمان به آنفاً . ولعل من معاني سلام الصلاة على غير الله عزّ وجلّ هو الاستمرار على الألفة ، والتعرف ، وجميل العشرة ، التي كانت قبل الصلاة ، وأنّ السلام عند الفراغ منها أقرب إلى الخلوص والوفاء والصدق ؛ لأنه قد سمت نفس المصلي بعروجه إلى عرش العظمة وجمال الحقّ تعالى فجاء بالسلام من عند السلام .
____________
1 ـ جامع أحاديث الشيعة 5 | 351 .
2 ـ المقنع 29 ، جامع أحاديث الشيعة 5 | 350 ، الباب 5 من التشهد والتسليم .
3 ـ الوسائل 4 | 1006 . وفي غضون العنوان الأول من العناوين العشرة .
4 ـ المصدر نفسه .