المبحث الثامن
موضوع العلم
قبل الدخول في البحث الصغروي وهو تحديد موضوع علم الاصول لابد من طرح البحث الكبروي وهو الحديث عن موضوع العلم بصفة عامة، وقد طرح الفلاسفة تعريفاً لموضوع العلم ، وهو: « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » ، واصبحت هذه العبارة مثاراً للمناقشات الفلسفية والاصولية وذكرت فيها مختلف التفسيرات ولكن الدخول في صميم تلك المناقشات يخرجنا عن اطار البحث الاصولي ، لذلك نكتفي بعرض تفسيرنا لهذه العبارة وبيان مقدماته ودفع الايرادات عنه فالكلام في ثلاث نقاط :
أ - مقدمات التفسير.
ب - بيان المعنى .
ج - دفع المناقشات .
النقطة الأولى : وتشتمل على عدة مقدمات :
المقدمة الأولى - في بيان المراد بالعلم . من الواضح أنه ليس المراد بالعلم هنا الإدراك الذهني المنقسم للتصور والتصديق ، بل المراد به نفس المسائل المجموعة بوحدة تركيبية معينة في وعائها المناسب لها سواءاً أدركها الانسان أم لم يدركها ، ودليل ذلك التبادر العرفي من إطلاق كلمة العلم المضافة لعنوان إعتباري خاص ، فعندما يقال درست علم الأصول وكتبت في علم النحو هذا كتاب في علم الفقه لا ينسبق للذهن العرفي ان المقصود بذلك هو الادراك فإن
( 95 )
الادراك لا يدرس ولا يدون ، بل المقصود هو نفس المسائل في وعائها المناسب لها لأن الدرس والتدوين معقول في ذلك .
المقدمة الثانية - في بيان معنى الموضوع : ان الموضوع يطلق على أربعة معاني :
الأول : الموضوع مقابل المحمول : فإن المناطقة ذكروا أن القضية - لفظية كانت أم ذهنية - إن كانت شرطية فهي مركبة من مقدم وتالي ، له ان كانت حملية فهي مركبة من موضوع ومحمول ، سواءاً كانت ثبوتية أو سلبية . والثبوتية كما تحتاج لموضوع مقرر في الوعاء اللفظي أو الذهني تحتاج أيضاً لوجود الموضوع في ظرفه المحكي عنه ، فإن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت ، ولكن إذا كانت سلبية كما في قولنا زيد ليس بقائم فقد ذهب المعظم إلى كفاية تقرر الموضوع في الوجود اللفظي والذهني من أجل تأليف القضية بلا حاجة لوجود المسلوب عنه في الواقع ، بينما قد يستفاد من كلام المحقق النائيني (قده ) في بحث استصحاب العدم الأزلي احتياج السالبة المحصلة لوجود الموضوع في وعائه المناسب مما يترتب عليه إنكار جريان استصحاب العدم الأزلي (1).
وبيان ذلك : أن هناك مسلكين في باب القضايا .
1 ـ القول بالوجود الرابط .
2 ـ القول بعدمه .
فالقول الأول يعني تركب القضية من ثلاثة اطراف موضوع ومحمول ورابط ، باعتبار أن هناك وجودين محموليين وجود الجوهر ووجود العرض فإذا لم يكن بينهما وجود رابط لا يتم ارتباطهما واقعاً ولا يصح حمل أحدهما على الآخر، فإذا كانت القضية موجبة نحو زيد قائم فلابد فيها من وجود الموضوع واقعاً ، لأن الايجاب يعني الربط بين الموضرع والمحمول والربط يحتاج لطرفين يتقوم بهما
____________
(1) فوائد الاصول 4 : 442 - 445.

( 96 )
فلابد من وجود الموضوع حينئذٍ ليتقوم به الوجود الربطي ، بينما إذا كانت القضية سالبة والسلب يعني عدم الربط فلا يوجد حينئذٍ وجود رابط حتى يحتاج لموضوع موجود يتقوم به ، فلا تحتاج السالبة المحصلة لوجود الموضوع .
والقول الثاني - وهو مختار المحقق النائيني (قده )(1) - هو القول بعدم الوجود الرابط ، وذلك لأن الارتباط الواقعي بين الموضوع والمحمول حاصل بنفس عرضية المحمول فإن معنى عرضية المحمول هو كون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره بلا حاجة لوجود رابط بينه وبين الموضوع ، وحينئذٍ إن كانت القضية موجبة فتارة يلاحظ وجود المحمول العرضي في نفسه وهذا هو الوجود المحمولي ، وتارة يلاحظ وجوده للموضوع وهو معنى عرضيته ، وبهذا اللحاظ يحتاج لوجود الموضوع لأن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له .
وإن كانت القضية سالبة فالمسلوب أمر عرضي يلاحظ تارة عدمه في نفسه ويعبرعنه بالسلب التام ، وتارة يلاحظ سلبه عن الموضوع وحينئذٍ يكون مفاده مفاد ليس الناقصة وهو العدم النعتي ، وهو بهذا يحتاج للموضوع أيضاً لأن ثبوت شيء - ولوكان سلباً - لشيء فرع ثبوت المثبت له . إذن فالتفريق بين القضية الموجبة والسالبة في الحاجة لوجود الموضوع وعدمه راجع للاعتراف بالوجود الرابط المتحقق في الموجبات فيحتاج لوجود الموضوع وعدم تحققه في السوالب فلا حاجة لوجود الموضوع لعدم تقوم شيء به ، وأما مع انكاره فلا فرق بين الموجبة والسالبة في كون المحمول عرضياً والعرض متقوم بموضوع جوهري بمقتضى عرضيته فيحتاج لوجود الموضوع على كل حال ، وبناء على هذا فالقضايا السالبة ترجع كلها لحمل العدم النعتي على الموضوع ، فلا يمكن الاستصحاب العدمي حينئذٍ ، لأن استصحاب العدم المحمولي لا يثبت العدم النعتي والعدم النعتي ليست له حالة سابقة حتى يستصحب ، ونقاش المبنى
____________
(1) اجود التقريرات 1 : 15 - 22 .

( 97 )
والبناء يأتي في باب الاستصحاب .
الثاني : الموضوع في مقابل العرض : ذكر الحكماء في بيان العرض والجوهر أن العرض ماهية لو وجدت كان وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها، والجوهر ماهية لو وجدت وجدت لا في موضوع ، فالجوهر في غنىً عن أعراضه وإن لم يكن في غنىً عن جوهر آخر، فالمادة مع كونها جوهراً لا تستغني في وجودها عن الصورة النوعية المحصلة لها.
الثالث : الموضوع بمعنى الأصل : ذكر ارباب العلوم أن لكل علم أصولاً موضوعة يعبر عنها بالمبادىء التصديقية، وهذه المبادىء لابد من ثبوتها بالبداهة أو في علم آخر، وعلم الأصول له مبادىء تصديقية أيضاً كالاذعان بموضوعه وغايته ونحو ذلك .
الرابع : الموضوع بالمعنى اللغوي . وهو محور البحث والحديث في كل كلام وعلم فلا يخلو عنه علم ، وهذا هو المقصود في كلماتهم بلفظ الموضوع .
فالمعنى الأول غير مقصود لوجهين :
أ - عدم انحصار القضايا المستعملة في العلوم بالقضايا الحملية حتى يفسر الموضوع بموضوع القضية بل قد تكون شرطية مؤلفة من مقدم وتالي .
ب - إن موضوع العلم لا يجب أن يقع موضوعاً للمسائل المدونة بل قد يكون محمولاً فيها وقد لا يكون ، فالمهم وجود المحور للبحوث فقط . فمثلاً موضوع الحكمة المتعالية هو الموجود بما هو موجود مع انه قد يقع محمولا للقضية كقولنا النفس موجود أم لا ؟ وقد يقع موضوعاً نحو الموجود واجب وممكن .
والمعنى الثاني غير مقصود أيضاً لوجهين .
1 - عدم اطراده لسائر العلوم ، فإن موضوع بعض العلوم خارج عن الجوهرية والعرضية كموضوع الإلهيات بالمعنى الأعم ، فإن موضوعه الوجود بما هو وجود والوجود خارج عن الجوهرية والعرضية بل هو منشأ انتزاعهما بناءاً على
( 98 )
اصالته .
2 - لو كان المقصود بالموضوع الجوهر المستغني في وجوده عن الاعراض لكان المراد بالعوارض الذاتية هو الاعراض التسعة، إذ لا يوجد للجوهر عوارض ذاتية تعرض له بلا واسطة الا المقولات التسع والمفاهيم الانتزاعية الشاملة لذاتي باب البرهان والخارج المحمول والمفهوم التحليلي ، مع أن كثيراً من العوارض المبحوث عنها في العلوم عوارض اعتبارية كالاحكام الخمسة في علم الفقه والحجية في علم الأصول وهي عوارض غريبة بالنسبة لمعروضاتها من الصفات والافعال والجواهر والادلة ، وغرابة عروضها عليها باعتبار وجود الواسطة الخفية لأنها تعرض في وعاء الاعتبار لموضوعها في ذلك الوعاء، فعروضها على الموضوع الخارجي إنما هو بواسطة انطباق ما في الاعتبار عليه وهي واسطة خفية في العروض ، فالعارض حينئذٍ غريب لا ذاتي .
فلو فسرنا الموضوع هنا بالجوهر المعروض للأعراض التسعة وللمفاهيم الانتزاعية لخرج البحث عن العوارض الاعتبارية عن موضوع العلم ، لأنها عوارض غريبة بالنسبة للجوهر لا عوارض ذاتية، مع أن العلوم الاعتبارية كالفقه والأصول قائمة على البحث عن هذه العوارض الاعتبارية .
وأما المعنى الثالث للموضوع فعدم إرادته واضح لأن مقدمة العلم تنقسم لثلاثة أقسام :
1 ـ موضوع العلم .
2 ـ تعريفه .
3 - مبادئه التصورية والتصديقية .
ولو كان الموضوع للعلم هو عبارة عن مبادئه التصديقية لم يكن قسماً ثالثاً في مقابلها وهو خلف ، وبعد بطلان إرادة المعاني الثلاثة تعين المعنى الرابع ، وهو أن معنى الموضوع هومحور بحوث العلم سواءا كان جوهراً أم عرضاً أم غير
( 99 )
ذلك .
المقدمة الثالثة : في بيان العوارض الذاتية :
المقصود بكلمة العوارض جمع عارضة كفواطم جمع فاطمة اخذاً من العروض بمعنى الاضافة، سواءاً كان العارض من المقولات التسع في إضافتها للجوهر، أم من المحمولات الانتزاعية كالامكان والوجوب المضافين للوجود ، أم من المحمولات الإعتبارية كالوجوب والحرمة المضافين للافعال ، أم من سنخ الوجود لاضافته للماهية كما قالوا : « إن الوجود عارض الماهية تصوراً » ، أم من سنخ الجوهر كاضافة الصورة النوعية الجوهرية للمادة، فالعروض مطلق الإضافة بنحو الحمل أو التركيب الاتحادي أو الانضمامي .
وهذا هو المقصود في كلماتهم بالعوارض حتى في نظر من عبر بلفظ الأعراض كالشيخ الرئيس في الاشارات (1) والنجاة(2) ، إذ لو كان نظره لخصوص المقولات التسع لم يكن موضوع العلم شاملاً لسائر الموضوعات في سائر العلوم كالعلوم الاعتبارية مثل علم النحو والفقه والأصول ، والعلوم الحقيقية كعلم الفلسفة .
وأما الذاتي فله أربعة معاني :
1 - ذاتي باب الايساغوجي : وهو النوع والجنس والفصل ، وهو خارج عن المقصود هنا، لأن المراد في المقام بالذاتي هو المحمول المضاف بلا واسطة جلية سواء أكان هذا المحمول من ذاتيات الموضوع أم من عرضياته ، بينما ذاتي باب الكليات الخمسة هو المحمول المقوم للذات مقابل العرضي اللاحق للذات بعد تقومها بذاتها وذاتياتها، فبينهما عموم وخصوص مطلق .

____________
(1) الاشارات1 : 91 - 93.
(2) النجاة : 17 و 494 .

( 100 )
2 - الخارج المحمول : وهو ما كان خارجاً عن ذاتيات الموضوع لكنه محمول عليه بلا واسطة نحو الإنسان ممكن مقابل المحمول بالضميمة أي بضميمة واسطة معينة ، وهو شامل للواقعيات والاعتباريات .
3 - ذاتي باب البرهان : والمقصود به ما كان مأخوداً في حد موضوعه او كان موضوعه أو أحد مقوماته مأخوداً في حده ، وبعبارة أخرى ما كانت الذات كافية لانتزاعه بلا واسطة ، فهو أعم مطلقاً من ذاتي باب الايساغوجي ، ومثاله الأنف أفطس .
لكنه غير مراد في المقام لاختصاصه بالامور الواقعية كما يظهر من تعريفه ، فإن الماخوذ في الحدود لابد من كونه من الأمورالواقعية بينما تعريف موضوع العلم شمامل لسائر العلوم حتى الاعتبارية منها .
4 - المفهوم التحليلي : وهو المستبطن في ذات الموضوع كقولنا الولد يحتاج لوالد والمعلول يحتاج للعلة، بخلاف قولنا الولد يحتاج لمكان فإن المحمول هنا غيرمستبطن في الموضوع لذلك يسمى مفهوماً تركيبياً لا تحليلياً ، لكنه غير مراد هنا، فإن الذاتي هنا شامل للمفاهيم التركيبية .
5 - باب الحمل والاضافة : وهو المعبر عنه في كلماتهم بالأولي ، وتعريفه أنه ما كان اسناده للموضوع إسناداً حقيقياً بنظر العرف ، لأن عروضه عليه بلا واسطة جلية، وهو أعم مطلقاً من ذاتي باب الايساغوجي وذاتي باب البرهان والخارج المحمول والمفهوم التحليلي ، وهو المقصود في محل كلامنا .
وبعد اتضاح المقدمات السابقة واتضاح أقسام الواسطة في العروض فيما سبق نقول : بان الميزان في الفرق بين العارض الذاتي والعارض الغريب هو الواسطة الجلية في العروض لا غيرها، فمتى كان الاسناد بواسطة جلية في العروض بحيث يعد تجوزاً بنظر علماء البيان فالعارض غريب حينذاك ومتى كان الاسناد بلا واسطة أو واسطة خفية أو أخفى فهو عارض ذاتي ، ويقع
( 101 )
البحث عنه في العلوم ، كما ذكر السبزواري في منظومته (1) وحاشيته على الأسفار(2) .
المقدمة الرابعة : بحث الأصوليون بحثاً مفصلاً حول الدليل على وجود موضوع لكل علم وعدمه ، وطرحت ثلاثة أدلة على اعتبار الموضوع .
الأول : إن لكل علم غرضاً واحداً يتحقق بمعرفة مسائله ، والمسائل بما هي كثيرة لا تؤثر في الواحد بما هو واحد، لأن الواحد لا يصدر الا من واحد، فلا محالة تكون وحدة الغرض كاشفة عن وحدة المؤثر فيه وهو موضوع العلم الجامع بين مسائله ، ويبتني على ذلك اعتبار وجود الموضوع في كل علم . وهذا الاستدلال طرح في المحاضرات (3) وبعض حواشي الكفاية ونوقش مناقشات عديدة لا يهمنا التعرض لها.
وانما تعليقنا على ذلك أننا لم نجد أحداً من الفلاسفة والأصوليين استدل على وجود الموضوع بكبرى لا يصدر الواحد من الكثير حتى نتجشم مناقشته والاشكال عليه كما عرفت .
الثاني : الكبرى المطروحة في كلمات الفلاسفة «موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » حيث استفاد منها بعض الأصوليين أنها تدل على لزوم وجود موضوع لكل علم ، وتعليقنا على ذلك أن هنا كبريين إحداهما لزوم الموضوع لكل علم والأخرى تفسير ذلك الموضوع بانه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، والثانية لا تثبت الأولى كما هو واضح والحديث إنما هو عن الثانية بعد فرض تسليم الأولى .
الثالث : الملازمة العقلية بين فائدة العلم ووجود الموضوع ، فإن العقل
____________
(1) شرح المنظومة 1: 154 .
(2) حاشية السبزواري على الاسفار: 1 | 32.
(3) محاضرات في اصول الفقه 1: 16.

( 102 )
النظري يدرك أنه لا يمكن حصول فائدة لأي كلام أو بحث أو علم في أي مجال بدون محور ومركز يدور عليه الكلام والبحث والعلم ، ولو كان هذا المحور عبارة عما يؤدي لغاية العلم وهدفه فوجود الموضوع بمعنى محور البحوث والمسائل ضروري لكل علم سواء أكان الموضوع واحداً أم متعدداً ، وهو الصحيح ، فلابد من وجود الموضوع والمحور لكل علم .
النقطة الثانية : في تفسيرالعبارة السابقة « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية »، وهنا تفسيران :
1 - أخص .
2 - أعم .
التفسير الأخص : ما قد يستفاد من عبارة الشيخ الرئيس في الاشارات (1) والمحقق الطوسي في شرحه على الاشارات (2) والتفتازاني في أوائل شرح المقاصد(3) ويعض المتاخرين في حاشيته على الاسفار(4)، من نظر هذا التعريف للعلوم البرهانية التي تكون محمولاتها من الامور الواقعية، إما لواقعية ما بحذائها خارجاً او لواقعية منشا انتزاعها، فلا ينطبق على العلوم الاعتبارية كالعلوم الأدبية ولا على العلوم القانونية كعلم الفقه وإن كان لها موضوع محقق .
والنكتة في اختصاص التعريف بالعلوم البرهانية كالحكمة باقسامها الثلاثة المتعالية والطبيعية والرياضية : كون المراد بالعارض الذاتي هو ذاتي باب البرهان الذي هو من الامور الواقعية البرهانية فمن الطبيعي حينئذٍ اختصاص التعريف بالعلوم البرهانية .

____________
(1) الاشارات 1 : 301.
(2) شرح الاشارات 1: 302 - 304 .
(3) شرح المقاصد 1: 171.
(4) حاشية الطباطبائي على الاسفار: 1 |32 .

( 103 )
التفسير الأعم : وهو ما قد يستفاد من كلام القطب الرازي في شرح المطالع (1) والملا اسماعيل في حاشيته على الشوارق نقلاً عن بعض مشايخه والسبزواري (2) في حاشيته على الاسفار، من كون التعريف المذكور شاملاً لكل علم حقيقي أو اعتباري ، فإن الموضوع إذا اريد به ما كان محور البحث والكلام فلا موجب لتخصيص العارض الذاتي حينئذٍ بذاتي باب البرهان بل يكون منطبقاً على كل عارض على ذلك المحور، سواء أكان العارض واقعياً أم اعتبارياً بشرط كونه عارضاً بلا واسطة جلية فى العروض، سواء أكان الموضوع واحداً أم متعدداً .
وبذلك يتبين لنا وجه تقديم التفسير الثاني على الأول ، وهو شموليته لسائر العلوم والفنون مع عدم الموجب لتخصيص العارض الذاتي بذاتي باب البرهان بعد كون المراد بالموضوع مطلق محور الكلام والبحث سواءاً كان واحداً أم متعدداً .
النقطة الثالثة : في دفع المناقشات الواردة على الكبرى المذكورة « موضوع كل علم . . . » بالتفسيرالمختار لها.
المناقشة الأولى : ما ذكره الاستاذ السيد الخوئي (قده ) في تعليقة اجود التقريرات ، وحاصله : أن مقتضى الكبرى المذكورة وحدة موضوع العلم (3)، وهو أمر لا واقعية له ، فإن موضوع بعض العلوم متعدد لا واحد، فعلم النحو مثلاً موضوعه الكلمة والكلام حيث أن هناك أحوالاً للكلمة كإعراب المضارع وأحوالاً للكلام ككون الجملة حالية أو وصفية، ولكن الملاحظ على هذا
____________
(1) شرت المطالع : 18 - 20 .
(2) حاشية السبزواري على الاسفار 1 | 32 ـ 33.
(3) اجود التقريرات ا : 3 .

( 104 )
المناقشة أمران :
الأول : إن العبارة المذكورة بصدد تعريف موضوع العلم بعد الفراغ عن كبرى وجود الموضوع سواءا كان واحدا ام متعددا، فلا تكون هذه الكبرى متعرضة للكبرى الأخرى أصلا حتى تفيد وحدة موضوع العلم ، بل بيان لمعنى الموضوع سواء أكان واحدا أم كثيرا.
الثاني : إن الفلاسفة الذين طرحوا هذا التفسيرلموضوع العلم لم يعتبروا الوحدة فيه ، بل لا مانع عندهم من كونه متعددا إذا كانت هناك جهة تناسب بين الموضوعات المتعددة حتى يصح اعتبار العلم علما واحداً، والا كان تعدد الموضوع بلا جهة جامعة موجباً لتعدد العلم كما ذكر الشيخ الرئيس في الاشارات (1) ، وذكره الطوسي ايضاً في حاشيته عليه (2) ، ومثل له بعلم الطب فإن موضوعه متعدد وهو بدن الانسان وأجزاؤه وأحواله والادوية والاغذية ولولا جهة التناسب بينها لكان العلم بتعددها متعدداً . كما أن وحدة جهة التناسب لا تستلزم وحدة الموضوع بمعنى المحور، لأن الموضوع هو نفس الكثرات بدون مدخلية تناسبها في الموضوعية .
المناقشة الثانية : ما في تعليقة أجود التقريرات أيضاً، وحاصلها : أن العارض الذاتي وهو الخالي عن واسطة في العروض لا يطرد لسائر العلوم ، فإن عوارض بعض العلوم مع واسطة في العروض لا بدونها فمثلاً في علم النحو لو قيل الكلمة - على نحو القضية المهملة - مرفوعة فإن الرفع من عوارض الكلمة بواسطة كونها مبتداً او فاعلاً، ومع وجود الواسطة في العروض فقد عد الرفع والنصب من الحالات الإعرابية المبحوث عنها في علم النحو مما يدل على عدم
____________
(1)الاشارات 1 : 298
(2) شرح الاشارات 1 : 298 .

( 105 )
اشتراط كون العوارض ذاتية بل يصح جعلها من مسائل العلم ولو كانت غريبة.
والذي نلاحظه على هذه المناقشة هو : أن العارض الذاتي المقصود في التعريف ما كان بلا واسطة جلية في العروض لا ما كان بلا واسطة اصلاً، فلا يرد عليه النقض بعروض الرفع للكلمة بواسطة الابتداء أو الفاعلية لأنها واسطة خفية لعدم التمايز الحسي بين نفس الكلمة وفاعليتها، ومع خفاء الواسطة فالاسناد حقيقي بنظر العرف والعرض ذاتي لا غريب .
المناقشة الثالثة : ما طرحه بعض الأعاظم (قده )(1) ومحصله : إن كثيراً من العلوم تتعلق بحوثها بأمور انتزاعية كالبحث في الحكمة عن الامكان والوجوب والامتناع أو بامور اعتبارية كالبحث عن الأحكام الخمسة في علم الفقه ، فلا وجه لتخصيص تعريف موضوع العلم بالبحث عن الأعراض التسعة.
ولكن الحق عدم ورود هذه المناقشة على كلا تفسيري عنوان العوارض الذاتية، فإننا إذا اخترنا تفسير العوارض الذاتية بذاتي باب البرهان شمل التعريف حينئذٍ البحث عن الأعراض المقولية المتأصلة والمحمولات الانتزاعية أيضاً، وإذا اخترنا تفسير الذاتي هنا بالعارض بلا واسطة جلية في العروض فشموله للمقولات التسع والانتزاعيات والاعتباريات أوضح ، وتفسير العوارض الذاتية بالاعراض التسعة بلا وجه ولا قرينة على التفسير المذكور بعد وصفها بالذاتية .
المناقشة الرابعة . ما في تهذيب الأصول (2) أيضاً ، ومحصلها : إن نسبة
____________
(1) اجود التقريرات 1 : 6.
(2) تهذيب الاصول 1 : 7. .

( 106 )
موضوعات المسائل في بعض العلوم لموضوع العلم نفسه نسبة الجزء للكل ، وعوارض الجزء عوارض الكل مع الواسطة الجلية في العروض بحيث يكون الاسناد مجازياً لا حقيقياً بنظر العرف ، فمثلاً موضوع علم الجغرافيا هو الأرض بينما يتم البحث في بعض مسائله عن أحوال أرض معينة ، وكذلك موضوع علم الهيئة مثلاً الجرم السماوي في العالم العلوي مع أنه قد يبحث في أحوال جرم خاص فيها، وذلك كاشف عن عدم اختصاص العوارض المبحوث عنها في العلوم بالعوارض بلا واسطة جلية في العروض بل المبحوث عنه مطلق العوارض(1) .
ويرد على المناقشة المذكورة : أن الظاهر من المنقول عن أرباب هذه العلوم كون موضوعها متعدداً لا واحداً، ففي دائرة المعارف لفريد وجدي : « الجغرافيا علم الغرض منه وصف الأرض ودرس الحوادث التي تحدث على سطحها وتقسيماتها المتفق عليها » (2).
وذكر في كشف الظنون : « الجغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض (3) ، قال الشيخ داود: « إنه علم باحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم والجبال والأنهار وما يختلف حال السكان باختلافه » (4) . وظاهر هذه الكلمات أن موضوع الجغرافيا متعدد لا واحد يكون بمثابة الكل وباقي موضوعات المسائل أجزاؤه .
وقال في دائرة المعارف : « علم الهيئة يعرف به أحوال الأجرام البسيطة والعلوية ، وموضوعه الأجسام المذكورة » (5) وظاهره أن موضوعه الأجسام على
____________
(1) تهذيب الاصول 1 : 7.
(2) دائرة المعارف 3 : 119. .
(3 و4) كشف الظنون ا : 590 .
(5 ) دائرة المعارف 6 : 628 .

( 107 )
نحو العام الاستغراقي لا العام المجموعي ، فالموضوع حينئذٍ متعدد لا واحد، وعلى فرض وحدته فنسبة موضوعات المسائل له نسبة الجزئي للكلي لا نسبة الجز للكل .
المناقشة الخامسة : ما في التهذيب (1) أيضاً ، وحاصلها : أن ظاهر العبارة المشهورة : « موضوع كل علم ما يبحث فيه . . . » وجود الموضوع لكل علم مع أن كثيراً من البحوث في مختلف العلوم تكون مسائلها من قبيل السالبة المحصلة التي لا تحتاج للموضوع أصلاً ، كالبحث في علم الأصول عن عدم حجية القياس والشهرة الفتوائية والاجماع المنقول ونحو ذلك ، فلا وجه حينئذٍ لاشتراط وجود الموضوع لكل علم(2) .
ولكن هذه المناقشة غير واردة لوجهين :
أولاً : قد سبق أن العبارة المذكورة بصدد تفسير موضوع العلم بعد الفراغ عن أصل وجوده فلا ظهور فيها لاشتراط وجود الموضوع وعدمه .
ثانياً : إن أريد بكلمة الموضوع موضوع المسألة في مقابل محمولها فلابد منه حتى في القضايا السالبة المحصلة، وإنما المنفي حاجة السالبة المحصلة لوجود المحكي عنه في وعائه الخاص لا حاجتها للموضوع في مقام التقرر اللفظي والذهني فإنه من المستحيل عدمه ، والا لما صارت القضية قضية ، وإن أريد به الموضوع بمعنى محور الكلام ومركزه فلابد منه عقلاً في كل بحث ومسائله سواءاً كان محمولها إيجاباً ام سلباً.
المناقشة السادسة : ما في تعليقة أجود التقريرات ، وحاصلها : إنه لا وجه لتخصيص العوارض المبحوث عنها في العلوم بالعوارض الذاتية ولا مانع من
____________
(1) تهذيب الاصول للامام الخمينى 1 : 8 - 9 .
(2) تهذيب الاصول للامام الخميني 1 : 8 - 9

( 108 )
شمول البحث للعوارض الغريبة أصلاً ، فإن المدار في تعيين العارض المبحوث عنه على الغرض من العلم ، فإذا كان حصول الغرض يتوقف على البحث عن العارض الذاتي فيصح البحث عنه وإذا كان يتوقف على البحث عن العارض الغريب صح البحث عنه ايضاً ، ولا موجب عقلاً للتخصيص بالعارض الذاتي(1) .
ويمكن الملاحظة على هذه المناقشة بوجهين :
1 - إن عدم توسعة العوارض المبحوث عنها للعوارض الغريبة لعدم وجود الداعي والحاجة للبحث عنها، فإن البحث عنها مع عدم الحاجة لغو لا يليق بصناعة التصنيف والتدوين ، وذلك لأن العارض الذي يتوقف حصول الغرض على البحث عنه إذا كان غريباً بالنسبة لموضوع العلم أو موضوع المسألة فهو ليس غريباً عن الواسطة في العروض بل يكون ذاتياً لها والا لم تكن واسطة في عروضه ، وإذا كان ذاتياً للواسطة فالمناسب لفن التدوين جعل الواسطة نفسها موضوعاً للمسألة لا جعل ذي الواسطة هو الموضوع فإنه لا حاجة له أصلاً، وحينئذٍ فلا تعم العوارض المبحوث عنها للعوارض الغريبة .
2 - إن جعل الواسطة في العروض موضوعاً للمسألة أو العلم دون جعل ذي الواسطة قد يستلزم تعدد الموضوع ، لاختلاف وسائط العروض في كل مسألة أحياناً ، أو كون العارض ذاتياً لموضوع المسألة غريباً بالنسبة لموضوع العلم ، أو يكون عارض غريباً لموضوع مسألة ذاتياً لموضوع مسألته ، وتعدد موضوع العلم لا مانع منه في نظر السيد (قده ) بل في نظر الفلاسفة إذا كانت هناك جهة تناسب بين الموضوعات كما سبق بيانه .

____________
(1) اجود التقريرات 1 : 6 .

( 109 )

المبحث التاسع
تمايز العلوم

ما هو المعيار في تمايز العلوم بعضها عن بعض ، وما ملاك وحدة المسائل المختلفة بحيث تصير علماً واحداً ، وما هو ملاك كثرتها بحيث تصير علوماً متعددة ؟ وتطرح هنا خمس نظريات :
النظرية الأولى : ما ذهب له قدماء الفلاسفة من كون المعيار في الوحدة والكثرة والتمايز هو الموضوع ، فالمسائل المتحدة موضوعاً علم واحد والمختلفة موضوعاً علوم متمايزة .
النظرية الثانية : ما ذهب له صاحب الكفاية والمحقق الاصفهاني من كون معيار التمايز بالغرض ، فالغرض جامع للمسائل المختلفة بوحدته في علم واحد ، وتعدده يعني تعدد العلم ولو اتحدت المسائل موضوعاً ومحمولاً(1) .
النظرية الثالثة: ما طرحه بعض الأعاظم (قده ) تبعا لبعض الفلاسفة ، من كون ملاك الوحدة والكثرة التسانخ الذاتي بين المسائل ، فوجود التسانخ الذاتي يجمع المسائل في علم واحد وعدمه يوجب تعدد العلم(2) وبناءاً على هذه النظريات الثلاث تكون وحدة العلم وحدة واقعية باعتبار كون الجهة الجامعة بين المسائل جهة واقعية وهي الموضوع والغرض والتسانخ الذاتي ، بينما
____________
(1) الكفاية : 8، بحوث في علم الاصول للمحقق الاصفهاني : 19 .
(2) تهذيب الاصول1 : 9.

( 110 )
على ضوء النظريتين الرابعة والخامسة تكون وحدة العلم اعتبارية لا واقعية .
النظرية الرابعة : ما طرحه الاستاذ السيد الخوئي (قده ) في تعليقة أجود التقريرات ، من كون الميزان في وحدة العلم وكثرته مختلف حسب اختلاف غرض التدوين للعلم ، فإذا كان الغرض من تدوين العلم هو البحث عن حقائق الموجودات مثلاً كما في علم الحكمة فالمعيار حينئذٍ هو الموضوع ، وإذا كان الغرض منه البحث عن بعض المحمولات كالحركة مثلاً في أي موضوع كان سواء أكانت أيناً أم كيفاً أم جوهراً فالميزان بالمحمول ، وإذا كان الغرض من البحث متعلقاً بما يوصل لغاية معينة وهدف معين فالمعيار حينئذٍ بالغرض كعلم المنطق الموصل لعدم الخطأ في الفكر، فلا يصح جعل ميزان واحد للتمايز والاجتماع(1) .
النظرية الخامسة : وهي الصحيحة عندنا، وبيانها في جانبين :
1 - الصحيح عندنا أن وحدة العلم وكثرته بالاعتبار والوضع لا أن الوحدة والكثرة أمران واقعيان ، وذلك لوجود الفرق الكبير بين الأمر الواقعي والأمر الاعتباري فإن الواقعي شيء ثابت سواءاً علم به الانسان أم لا ولا يتغير بتغير الأنظار والاتجاهات بخلاف الأمر الاعتباري فإن واقعيته باعتبار المعتبر، ولذلك يختلف باختلاف الأنظار والآراء . ومن هنا نرى أن العلم الواحد قد يتحول لعلوم متعددة كعلم الطب مثلاً وعلم الهندسة، أو تجتمع العلوم المتعددة في علم واحد كعلم المعرفة وعلم الوجود في الحكمة المتعالية، مما يرشدنا لدوران وحدة العلم وكثرته مدار الاعتبار لا أنها أمر واقعي لا يتخلف ولا يختلف .
2 - الوحدة الاعتبارية وإن كانت خاضعة لاعتبار المعتبر ولكنها لا تكون
____________
(1) اجود التقريرات 1 : 7 .

( 111 )
موضعاً لترتيب الأثار العقلائية الا مع وجود المصحح المنسجم مع المصالح العقلائية والمنبعث عن تمام الجهات الدخيلة في تشكيل هذه الوحدة، فمثلاً لو أراد الجهاز الاداري في بلد ما اعتبار منطقة من المناطق مدينة مستقلة في شؤونها البلدية والاقليمية فلابد في تشكيل هذه الوحدة من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة في ذلك ، كحدود المنطقة ، ومقدار بعدها عن المناطق الاخرى ، وعدد السكان في بلوغه النصاب الكافي للاستقلال وعدمه ، وإمكانية التعايش مع سكان المناطق الأخرى وعدمه ، وتوحد اللغة السائدة وكثرتها، فلا يكتفي في مقام اعتبار الوحدة بوجود جهة واحدة بل لابد من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة ليكون الاعتبار منسجماً مع المصالح العقلائية وموضعاً لترتيب الأثار عليه .
وهذا هو المراعى في وحدة العلم أيضاً ، فالمصنف والمدون لعلم معين لابد له في تشكيل الوحدة من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة في ذلك كوحدة الهدف ، او وجود التسانخ الذاتي في الموضوع أو المحمول بين مسائل العلم ، أو ملاحظة الفترة الزمنية لاستيعاب العلم أيضاً ، فإن هذه جهة مهمة فإن أقصى مدة لدراسة أي علم تستغرق لا محالة ثلث عمر الإنسان الاعتيادي بحيث يمكنه الانتفاع به وإبراز اثاره في المجتمع العقلائي وإلا فالعلم المستغرق لعمر الانسان في دراسته لا يعد عند العقلاء علماً واحداً ، فمثلاً علم الطب كان يكتفى في دراسته قديماً بكتاب القانون لابن سينا ويصبح الانسان بعد ذلك طبيباً، ولكن لما اتسعت جهاته بحيث لا يمكن للشخص العبقري التخصص في أكثر من ثلائة فروع حسب العمر الاعتيادي للانسان أصبح علوماً متعددة وتخصصات مختلفة، وإن كان بين هذه العلوم تسانخ في الموضوع أو المحمول .
وكذلك علم الهندسة حيث كان تابعاً فيما سبق لعلم الحساب وأصبح
( 112 )
بعد ذلك علوماً مختلفة ، كالهندسة المعمارية والبترولية والمدنية والكهربائية والصوتية . فالنتيجة أن المعيار في وحدة العلم وكثرته الاعتبار الخاضع لرؤية تمام المصالح والجهات الدخيلة في التدوين والتصنيف ، لا خصوص جهة معينة كالموضوع والمحمول والهدف او اختلاف ذلك باختلاف الأغراض .
هذا تمام الكلام حول النظرية الخامسة .
وأما النظرية الأولى وهي جعل معيار الوحدة والكثرة في وحدة الموضوع وكثرته فيلاحظ عليها أمران :
1 - إن القائلين بهذه النظرية فسروا العارض الذاتي في تعريف موضوع العلم بذاتي باب البرهان ، وبما أنه من الأمور الواقعية البرهانية فلا محالة يختص التعريف بالعلوم البرهانية وهي الحكمة باقسامها، ومن المعلوم الواضح أن المعارف الحكمية متحدة باتحاد موضوعها لذلك صرح هؤلاء بأن وحدة العلم بوحدة موضوعه نظراً لواقع العلوم البرهانية، بينما على المختار من تفسير العارض الذاتي بما يعرض بلا واسطة جلية لا يختص التعريف بالعلوم البرهانية المتحدة باتحاد موضوعها بل يشمل سائر العلوم المتحدة بالاعتبار الخاضع للمصالح العامة، فلا موجب حينئذٍ لجعل معيار الوحدة هو الموضوع فقط .
2 - قلنا فيما سبق إن من الجهات الدخيلة في توحيد العلم عدم استغراق دراسته لما يزيد على ثلث عمر الإنسان الاعتيادي ، وحينئذٍ فالوحدة بوحدة الموضوع غير كافية لاعتبار وحدة العلم ما لم يضم لها سائر الجهات الدخيلة في ذلك .
وأما النظرية الثانية وهي كون معيار الوحدة والكثرة بالتسانخ الذاتي بين المسائل فيلاحظ عليها أمران :
أ - إن التسانخ كلي مشكك ، فهل المراد منه التسانخ الجنسي أم النوعي أم الصنفي ؟

( 113 )
فمع عدم تحديد ضابط في ذلك لا يمكن جعل المسائل المتسانخة ولو في جنس بعيد علماً واحداً ، فإنه مستهجن عند العقلاء.
2 - إن مجرد التسانخ لا يكفي في الوحدة الاعتبارية كما سبق ما لم يضم له اعتبار عدم زيادة فترة دراسة العلم لما يزيد على ثلث عمر الانسان الاعتيادي وأشباهه .
وأما النظرية الثالثة القائلة بأن وحدة العلم وكثرته بوحدة الغاية وتعددها فيلاحظ عليها ما ذكرناه سابقاً ، وهو أن وحدة الغرض والغاية كلي مشكك يصدق على الاتحاد الجنسي أو النوعي أو الصنفي ، نظير ما يقال بأن الغرض من علم الطب هو الصحة مع تفاوت الأفراد في ذلك ، مضافاً لعدم كفاية وحدة الغرض في وحدة العلم ما لم يراعى فترة استيعاب العلم ودراسته ونحوها.
وأما النظرية الرابعة القائلة بان معيار الوحدة مختلف باختلاف الموارد في غرض البحث ففيه ما سبق أيضاً ، من كون وحدة الموضوع أو المحمول أو الغاية كلياً مشككاً فلا يمكن جعله معياراً للوحدة مع تفاوت مصاديقه وأفراده تفاوتاً كبيراً مضافاً لعدم كفاية تلك المعايير بدون لحاظ فترة استيعاب العلم ودراسته .
فالصحيح : هو ملاحظة جميع ما هو دخيل في الوحدة الاعتبارية المعتبرة في المجتمع العقلائي لا كفاية واحد منها الذي يختلف تعيينه باختلاف الموارد .
وبعبارة أدق : إن المدار في الوحدة والكثرة الاعتباريتين الصالحتين لترتيب الاثار في المجتمع العقلائي على الاعتبار الناشىء عن مراعاة المصالح العقلائية والجهات الدخيلة في ذلك ، سواءاً كانت جميع الامور المذكورة أو بعضها، وليس المدار على الغرض الشخصي للمدون والباحث في تعلقه تارة بالموضوع وأخرى بالمحمول وثالثة بالغاية والهدف كما ذكر الاستاذ السيد الخوئي ( قده ) ، ولا على الموضوع وحده أو المحمول وحده او الغاية وحدها أو التسانخ
( 114 )
الذاتي وحده ، فإن كل هذه الأمور لا تكفي في بعض الموارد لتشكيل الوحدة الاعتبارية بحيث تكون في نظر العقلاء موضعاً لترتيب الآثار العامة ما لم يلاحظ معها جهات أخرى لها مساس بذلك .