فظهر مما تقدم ان الصدوق (قده ) إنما نقل حديث (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) من كتب العامة وأورده احتجاجا به عليهم ، وذلك لقرينتين :
الأول : انه نقل هذا الخبر في مقام الاحتجاج على العامة في مسألة خلافية بيننا وبينهم .
الثانية : ان سائر الروايات التي نقلها في هذا المقطع من كلامه ، انما نقلها عن العامة ولا توجد في شيء من كتبنا، بل ان سائر الادلة التي ذكرها انما هي من قبيل الاجتهاد بالرأي من القياس والاستحسان ونحوهمامما لا حجية له لدى الامامية، وقد استعملها في مقام الالزام ، فهذا يكشف عن أن منهجه الاستدلالي في هذا الموضع ، انما كان على البحث مع العامة وفق مبادئهم واسسهم ، ولا ينفع في هذا السياق ذكر خبر مروي من طرق
(93 )
الامامية ، كما هو واضح .
فبهاتين القرينتين يحصل الوثوق بان الصدوق (قده ) قد أورد خبر (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) من طرق العامة وانما احتج به عليهم في مسألة خلافية، كما فعل من بعده كالشيخ الطوسي في الخلاف والعلامة في التذكرة .
وبذلك يظهر عدم تمامية دعوى انجبار الحديث مع الزيادة بعمل الاصحاب ، فلا دليل على ثبوت هذه الزيادة واعتبارها .
المقام الثاني : في تحقيق زيادة (على المؤمن ) في آخر الحديث ،إن هذه الزيادة قد وردت في رواية ابن مسكان ، عن زرارة في قضية سمرة ، لكنها لم ترد في معتبرة ابن بكير، عن زرارة، التي نقلت نفس القضية، كما لم ترد في سائر موارد نقل الحديث ، من طرق الخاصة والعامة، فهل تثبت هذه الزيادة في الحديث برواية ابن مسكان ، كما ذهب اليه العلأمة شيخ الشريعة(1) وغيره أم لا؟ كما اختاره المحقق النائيني (2) وآخرون ؟
والقول بثبوت هذه الزيادة يتوقف على الالتزام بامرين :
الأول : حجية رواية ابن مسكان في نفسها .
الثاني : تقديمها -بعد حجيتها - على ما لا يتضمن تلك الزيادة .
اما الامر الأول : فيشكل الالتزام به من جهة ان الرواية مرسلة، ولا سيما أن مرسلها البرقي الذي طعن عليه بالرواية عن الضعفاء ، ولكن مع ذلك فقد يقال بحجيتها لاحد وجهين :
الوجه الاول : وجود الرواية في الكافي فلا يضرها الارسال بعد ذلك ، وذكر هذا المحقق النائيني (قدس سره )(3) وقد حكي عنه انه قال (ان الخدشة
____________
(1) رسالة لا ضرر15 .
(2 و 3) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 19 .

(94 )
في اسناد روايات الكافي من حرفة العاجز (1)، ويبدو أن العلامة شيخ الشريعة ايضأ اعتمد على هذا الوجه ، ولعل تأثره بالوجوه التي ذكرها المحدث النوري في خاتمة المستدرك في تصحيح احاديث الكافي .
ولكن تلك الوجوه ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها كما اوضحنا ذلك في بعض ابحاثنا الرجالية .
الوجه الثاني : ان يقال إن اصل هذه القضية التي ذكرت في رواية ابن مسكان عن زرارة قد ثبتت ايضاً برواية ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام ، وبرواية أبي عبيدة عنه عليه السلام أيضا، فمطابقة رواية ابن مسكان في اصل القضية لتلك الروايتين مما يوجب الوثوق بصدورها .
ويرد عليه :
أولاً : إنه إذا كان مبنى الاعتماد على رواية ابن مسكان توافقها في المضمون مع روايتي ابن بكير وأبي عبيدة، فاللازم الاقتصار في ذلك على موارد الاتفاق فيما بينها، ولا يمكن التعدي عنها الى موارد الاختلاف ، فإن قضية سمرة بنقل ابن بكير عن زرارة لم تتضمن زيادة (على مؤمن ) وان تضمنت أصل حديث (لا ضرر ولا ضرار) كما أنها بنقل أبي عبيدة لم تتضمن اصل الحديث ، فكيف يمكن الالتزام باعتبار رواية ابن مسكان في مورد الاختلاف بينها وبين تلك الروايتين بسبب التوافق بينها في اصل القضية؟ !
وثانياً : إن رواية ابن بكير غير متضمنة لهذه الزيادة، ولا يمكن توجيه عدم تضمنها لها بانه من باب الاختصار-مع أنه حذف لما يخل بالمعنى حذفه - لان الاختصار في مثل ذلك لا يوافق اصول الاختصار المعمولة في باب الروايات كما سياتي توضيحه إن شاء الله تعالى، وعلى هذا فالقول
____________
(1) معجم الرجال 1 : 87.

(95 )
باعتبار رواية ابن مسكان في هذا الموضع ، مع منافاتها مع مصدر اعتبارها ، وهوخبر ابن بكيرمما لا محصل له ، لأن مرجعه إلى انه إذا كان هناك خبران متعارضان يشتركان في جزء من مضمونهما، وكان احدهما حجة في نفسه دون الآخر، فإن الثاني يكون حجة في جميع مضمونه بملاحظة اشتراكه مع الاول في جزء من مضمونه ، ثم يتعارضان في نقطة الاختلاف بينهما، وربما يتقدم الثاني على الاول - الذي اكتسب منه الحجية - ببعض الوجوه والاعتبارات ، ! وهذا أمر لا ريب في بطلانه.
فتحصل مما تقدم ان رواية ابن مسكان لم يثبت اعتبارها في نفسها لتكون حجة على ثبوت زيادة (على مؤمن ) في آخر الحديث .
وأما الامر الثاني : وهو تقديم هذه الرواية المتضمنة للزيادة - على تقدير حجيتها - على ما لا يتضمن الزيادة وهي رواية ابن بكير، فربما يحتج له : بان مقتضى الاصل في دوران الامربين الزيادة والنقيصة هو البناء على الزائد والاخذ به واعتبار الخلل في مورد النقص .
وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي البحث في مقامين :
المقام الأول : في ثبوت الاصل المذكور وهو بحث مهم جدا، لانه يتضمن مسألة سيالة كثيرة الدوران في الفقه .
والمقام الثاني : فيما يقتضيه الموقف على تقدير عدم ثبوت هذا الاصل .
أما المقام الأول : فيلاحظ ان مقتضى القاعدة الاولية هو اعمال قواعد المتعارضين من الترجيح أو التساقط ، لان الدليلين هنا من قبيل المتعارضين بالنسبة الى كيفية النقل فيجري فيهما القواعد العامة في باب التعارض وهي تقتضي ملاحظة المزايا في الجانبين فإن اقتضت رجحان احدهما أو أوجبت الوثوق به - على القولين في باب التعارض من كفاية الرجحان في الترجيح أو
(96 )
اعتبار الوثوق كما هو المختار- أخذ بالجانب الراجح - سواءاً كان هو الزيادة أو النقيصة وإلا تساقط الدليلان ولم يمكن الاعتماد على أي منهما .
هذا بحسب الأصل الأولي .
وأما الأصل الثانوي المقتضي لتقديم جانب الزيادة على جانب النقيصة كقاعدة عامة في موارد دوران الامر بينهما ففي حقيقته احتمالان :
الاحتمال الأول :أن يكون صغرى وتطبيقاً للقاعدة العامة للترجيح الصدوري - لا أصلأ موضياً يرجح جانب الزيادة مستقلأ عن تلك القاعدة - وذلك بان يكون المقصود به التعبير عن وجود مزية نوعية قائمة في طرف الزيادة دائما أو غالبا بحيث توجب أقربية الزيادة الى الصدور من النقيصة ، في فرض عدم رجحان طرف النقيصة في القيمة الاحتمالية للصدور، وإلأ لم يرجح جانب الزيادة ولم يؤخذ بها .
وبناء ا على تفسير القاعدة المذكورة بهذا الاحتمال فيمكن الاستدلال عليها بوجهين .
الوجه الأول : أن يقال إن احتمال الغفلة في جانب الزيادة أبعد من احتمالها في جانب النقيصة فيلزم الاخذ به ، ولعل وجه الابعدية أن الغفلة - بمعنى الذهول - إنما تتناسب بحسب طبيعتها لأن تكون سببا لترك شيء ثابت لا لإثبات شيء غيرواقع كما هومشاهد وجدانا.
ويرد عليه :
أولا :
بأن الأمر لا يدور بين الغفلتين ، ليرجح احتمال عدم الغفلة في جانب الزيادة على احتمال عدم الغفلة في جانب النقيصة، فإن لكل من الزيادة والنقيصة مناشئ أخرى غير ذلك ، فقد تتحقق الزيادة لاجل النقل بالمعنى على اساس أن الراوي يستفيد قيدا للكلام من القرائن المحتفة به حسب فهمه فيتبعه ولا يثبته غيره لأنه لم يستفده منها، وقد تتحقق النقيصة
(97)
من جهة الاختصار في النقل ، أو تصور كون القيد توضيحيا لا احترازيا مثلأ، فلا بدّ من ملاحظة مجموع الاحتمالات ودرجة كل احتمال بحد ذاته ثم الحكم على ضوءذلك .
وثانياً : بانه لو فرض دوران الامر بين الغفلتين فإن أبعدية الغفلة في جانب الزيادة لا تقتضي إلآ أرجحية احتمال الغفلة في جانب النقيصة بمعنى الظن بوقوعها ولكن قد حقق في محله انه لا يكفي الرجحان بمعنى الظن في تقديم أحد المتعارضين على الآخر، لعدم الدليل على حجية الظن بالصدور لا تعبدا ولا عقلا، بل العبرة في ذلك بالوثوق باحد الطرفين ، بنحو يوجب انصراف الريبة الحاصلة من العلم الاجمالي بخطأ احدهما الى الطرف الآخر دون هذا الطرف .
الوجه الثاني : أن يقال : إن الزيادة ليس لها تفسير- على تقدير صدق الراوي - إلآ الغفلة فينفى هذا الاحتمال باصالة عدم الغفلة، وأما النقيصة فيمكن تفسيرها بوجوه أخر، من قبيل الاختصار في النقل أو توهم تساوي وجود الزيادة وعدمها في المعنى وغير ذلك ، ومن هنا يرجح احتمال وقوع النقيصة في الناقص ويبنى على ثبوت الزيادة .
ويرد عليه :
أولاً :
أن سبب الزيادة - كما تقدم - لا ينحصر بالغفلة ، بل قد تكون الزيادة من جهة النقل بالمعنى بعد فهم الزائد من لحن الكلام ومناسبات الحكم والموضوع ، أو بلحاظ ما اعتقده الراوي من القرائن المقامية المحتفة بالكلام او لغير ذلك ، فالنسبة بين مناشئ الزيادة والنقيصة ليست عموما وخصوصاً مطلقأ بان تكون مناشئ الزيادة مناشئ للنقيصة ايضا ولا عكس كما ذكره بعض الاعاظم (1) .
____________
(1) الإمام الخميني (قده ) في الرسائل 26 - 27 نحوه .

(98 )
وثانياً : انه لا عبرة بمجرد زيادة المحتملات في احد الجانبين بالنسبة الى الجانب الآخر، بل لا بدّ من ملاحظة درجة الاحتمال في كل واحد منهما على ضوء جهات اخرى من قبيل وحدة الراوي وتعدده أو قرب الاسناد وبعده ، أو اوثقية رواة احد النقلين بالنسبة الى رواة الاخر وهكذا ، فمجرد زيادة المحتملات في جانب النقيصة لا يوجب أرجحية احتمال وقوعها في مقابل احتمال وقوع الزيادة .
وثالثا: لو سلمنا أرجحية احتمال وقوع النقيصة من احتمال وقوع الزيادة إلأ أنه لا يستوجب الاخذ به لعدم حجية الظن في هذا الباب كما تقدم آنفا.
الاحتمال الثاني : في تفسير الاصل المذكور: أن يكون اصلا موضعيأ يرجح جانب الزيادة على النقيصة من جهة الصدور- مسمقلا عن القاعدة العامة للترجيح - بمعنى لزوم الاخذ بالزيادة والبناء على صحتها بغض النظر عن تكافؤ الاحتمالين أو ارجحية جانب الزيادة أو أرجحية جانب النقيصة ما لم تصل الى درجة الاطمئنان والوثوق ، وإلا كان العمل بالخبر الموثوق به دون الآخر وإن كان متضمنأ للزيادة أو النقيصة .
وقد يستظهر هذا الاحتمال من كلام العلامة شيخ الشريعة (قده ) حيث قال (1) بعد نقل اختلاف الروايات في هذه الزيادة : وبناءً على القاعدة المطردة المسلمة إن الزيادة إذا ثبتت في طريق قدمت على النقيصة ، وحكم بوجودها في الواقع وسقوطها عن رواية من روى بدونها ، وان السقوط إنما وقع نسيانا أو اختصارا أوتوهما بانه لا فرق بين وجودها وعدمها إلاّ التاكيد ، أو غير ذلك من وجوه ما يعتذر به للنقص في قضية شخصية ثبتت في طريق آخر مع
____________
(1) رسالة لا ضرر15 .

(99)
الزيادة، فينتج ما ذكر أن الثابت في قضية سمرة هو قوله (لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) لا هما مجردين . انتهى .
ولكن يرد عليه - على تقدير تمامية الاستظهار المذكور-:
أولاً: انه لم يثبت هناك اصل عقلائي في خصوص المقام يقتضي البناء على صحة الزيادة، وإنما العبرة عند العقلاء بقيام القرائن الموجبة للوثوق بأحد الطرفين ، كما في سائر الموارد الأخرى، فمتى حصل الوثوق باحدهما بعد تجميع القرائن في كل واحد منهما بنوا عليه ، سواء أكان هو ثبوت الزيادة أو عدم ثبوتها ، وإلا تساقطا معأ ، ودعوى اطراد تقديم الزيادة في تعارض الطرق ممنوعة جدا ، فهل ترى أن احدأ إذا كان في مقام استلام الف دينار من غيره ، فأمر اثنين بعد المبلغ فعده احدهما ألفا، والآخر ألفا وخمسة وعشرين ، فهل تراه يقدم قول الاول بالبناء على اصالة ثبوت الزيادة ويرجع خمسة وعشرين دينارا الى صاحب المال ؟ !
وثانيا : ان ما ذكره (قدس سره ) من كون ذلك مسلما عند الكل في غير محله ، بل وقع الاختلاف فيه بين العامة والخاصة ، ونقتصر على الاشارة الى اراء بعضهم ، فالمحقق النائيني (قدس سره ) مثلا يرى أن مبنى الاصل المذكور هو ابعدية احتمال الغفلة بالنسبة الى الزيادة عن احتمالها بالنسبة الى النقيصة ، وهذه الأبعدية لا تتم فيما لوكان الراوي للزائد واحدا وللناقص متعددأ(1)، فهذا يدل على أنه (قده ) لا يرى البناء على الزيادة اصلا برأسه ، بل يراه مبنيا على محاسبة الاحتمالات واختلاف درجتها في الجانبين .
والزيلعي من محدثي العامة ذكر في كلام له في نصب الراية(2) ما نصه
____________
(1) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 192 (2) نصب الراية 1 | 336 .

(100)
(إن قيل إن الزيادة من الثقة مقبولة ، قلنا ليس ذلك مجمعا عليه بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقا، ومنهم من لا يقبلها والصحيح هو التفصيل : وهوأنها تقبل في موضع دون موضمع فتقبل اذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظأ ثبتأ، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الوثاقة وتقبل في موضع اخربقرائن تحفها ومن حكم حكما عاما فقد غلط ).
وهكذا اتضح مما تقدم أنه لا وجه لترجيح جانب الزيادة على جانب النقيصة على اساس قاعدة عامة تقتضي ذلك ، سواءاً كانت تطبيقأ للقاعدة العامة للترجيح الصدوري أو اصلا مستقلا برأسه ، وعلى ضوء ذلك فلا يمكن اثبات زيادة (على مؤمن ) في الحديث استنادأ الى هذا الاصل .
هذا تمام الكلام في المقام الأول .
وأما المقام الثاني : وهو فيما يقتضيه الموقف بعد عدم تمامية الاصل المذكور، ففيه وجهان :
الوجه الأول : أن يرجح ثبوت الزيادة في هذه الحالة ايضا بتقريب : أن من لاحظ رواية ابن مسكان المتضمنة لزيادة (على مؤمن )، وقارن بينها وبين روايتي ابن بكير وأبي عبيدة يجد ان سياقها قائم على التفصيل وذكر خصوصيات ما دار بين الرجل الانصاري وبين سمرة، ثم ما دار بينهما وبين رسول الله صلى الله عليه وآله ، بينما الروايتان الأخريان ليس سياقهما في ذكر تمام الخصوصيات ، فرواية ابن مسكان ليست في مستوى الروايتين اجمالا وتفصيلا حتى يتوقع تضمنهما لما تضمنته ، ليكون عدم تضمنهما لشئ جاء فيها موجبا للتشكيك في ثبوته ، بل إنهاتمثل الصورة التفصيلة للقضية بينما هما يتضمنان الصورة الاجمالية لها فعدم ذكركلمة (على مؤمن ) فيهما لعدم كونهما في هذا السياق .
ويرد عليه : أن للاختصار اصولا وقواعد لا تاتي في جميع الموارد،
(101)
فربما يصح الاختصار ويكون مناسبأ في مورد لخلو التفصيل عن أي فائدة مهمة ، ولا يكون كذلك في مورد آخر، والمقام من هذا القبيل فإن الاختصار في نقل التفاصيل الدائرة في القضية مما ليس لها اثر فقهي لا يقارن بالاختصار في نقل كلام النبي صلى الله عليه وآله الذي هو في مقام القاء كبرى كلية بحذف بعض كلماته ، فالاجمال من الجهة الأولى موافق لاصول الاختصار، بخلافه من الجهة الثانية فلا يمكن قياس الثاني بالأول .
الوجه الثاني : أن يرجح عدم ثبوت الزيادة، ويخرج ورودها في رواية ابن مسكان على انها كانت اضافة من الراوي لفهمه من مناسبات الحكم والموضوع - كما ذكره المحقق النائيني (قده ) - وذلك بتصور أن المنع من الاضرار بالغير يمثل رحمة بالنسبة اليه ، ولا يناسب شمول ذلك للكافر الذي امرنا بالشدة معه كما في قوله تعالى (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (1)، فلا محالة تختص كبرى لا ضرر ولا ضرار بالمؤمن فيزاد لفظ (على مؤمن ) .
وهذا الوجه هو الاقرب في النظر لرجحان رواية ابن بكير، الخالية عن الزيادة المذكورة من عدة جهات يمكن بملاحظة مجموعها ترجيح الوجه المزبور وهذه الجهات هي :
الأولى : قرب الاسناد في رواية ابن بكير، فإن بين الكليني وبين الامام عليه السلام في رواية ابن بكير، عن زرارة خمس وسائط وبينه وبين الامام في رواية ابن مسكان ست وسائط ومعلوم أنه كلما قل عدد الوسائط يقل معه احتمال مخالفة النقل للواقع ، لأن احتمال المخالفة يجيء في كل واحد من الرواة فيقل بطبيعة الحال فيما كان اقرب اسنادا الى الامام عليه السلام .
الثانية : تعدد الرواة في رواية ابن بكير دون رواية ابن مسكان ، فإن
____________
(1) سورة الفتح 48 | 29 .

(102)
الرواة عن عبدالله بن بكير في كل طبقة لا تقل عن رجلين ، بملاحظة ضم طريق الصدوق في المشيخة الى طريق الكليني ، وأما في رواية إبن مسكان فالراوي في كل طبقة رجل واحد فقط .
هذا مضافا الى ان كتاب (عبدالله بن بكير) كان كثير الرواة كما ذكر ذلك النجاشي ، وأما كتاب (عبدالله بن مسكان ) فلم يذكر ذلك بشأنه ، فلو إستظهرنا أن مصدر الكلينى أو الصدوق فيما روياه عن عبدالله بن بكير نفس كتابه ، فلا تقاس حينئذ روايته برواية ابن مسكان ، من حيث الاعتبار.
ولكن لا سبيل الى هذا الاستظهار بالنسبة الى نقل الكليني كما هو واضح ، وقد يقال بثبوته بالنسبة الى نقل الصدوق لأنه ابتدأ باسم ابن بكيروله طريق اليه في المشيخة، فيعلم بذلك انه اخذ رواياته من كتابه ، ولكن هذا ليس بصحيح -كما تقدمت الاشارة اليه - لأن الصدوق (قده ) لم يتقيد في الفقيه بالابتداء باسم صاحب الكتاب الذي اخذ الحديث من كتابه بل يبتدأ باسم غيره كثيرا، فمجرد الابتداء باسم شخص وإن كان له سند اليه في المشيخة، أو كان كتابه مشهورا لا يقتضي كون مصدره في النقل عنه نفس كتابه .
الثالثة : إن رواة الحديث في سند الصدوق الى ابن بكير اعظم شأنا وأجل قدرا من رواته في سند الكليني الى أبن مسكان ، فمن رواة الاوّل (الحسن بن علي بن فضال ) الذي قال عنه الشيخ : كان جليل القدر عظيم المنزلة زاهدا ورعا ثقة في الحديث ، ومنهم (احمد بن محمد بن عيسى) الذي قال عنه النجاشي : شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع ، ومن رواة الثاني ذلك المجهول الذي روى عنه محمد بن خالد البرقي ولم يذكر اسمه ، وقد ذكر في شأن البرقي انه كان ضعيفا في الحديث يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، ومنهم احمد بن محمد بن خالد الذي
(103)
قال عنه ابن الغضائري طعن عليه القميون وليس الطعن فيه وانما الطعن فيمن يروي عنه ، فانه كان لا يبالي عمن يأخذ على طريقه اهل الاخبار ،وقال الشيخ : كان ثقة في نفسه غير انه اكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل . ونحوه كلام النجاشي .
الرابعة : ان الكليني قد فرق بين روايتي ابن بكير وابن مسكان في كيفية النقل من وجهين يقتضيان ارجحية رواية ابن بكير وهما :
1ـ انه نقل رواية ابن بكير في اوائل الباب ونقل رواية ابن مسكان في اواخره ، وفصل بينهما بجملة احاديث تختلف عنهما موضوعا ،فهذا قد يدل على ان ذكر الثانية كان على سبيل الاستشهاد والتأييد لا على سبيل الاعتماد على ما هو دأبه ـ فيما عرفناه بالتتبع في كتابه ـ من ترتيب الروايات على حسب مراتبها عنده في الصحة والاعتبار ،وقد تنبه لهذا بعض المحققين ايضا(1).
2ـ انه نقل رواية ابن بكير بتوسط العدة عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، ولكنه نقل رواية ابن مسكان بتوسط علي بن محمد بن بندار عنه ، ولا يبعد ان يكون منشأ ذلك انه قد نقل الرواية الاولى عن النسخة المشهورة أو الاجزاء المشهورة من كتاب المحاسن للبرقي ، ولذا نقلها بتوسط العدة ، وأما الثانية فنقلها من غير كتاب المحاسن أو غير النسخة أو الاجزء المشهورة منه فلذا كان الراوي لها واحدا.
وتوضيح ذلك ان كتاب المحاسن للبرقي وان عد من الكتب المشهورة ـ كما في مقدمة الفقيه ـ الا ان جميعه لم يكن كذلك ،وقد ذكر الشيخ والنجاشي : انه قد زيد في المحاسن ونقص وقد اختلفت الرواة في عدد
____________
(1) روضات الجنات 6 | 116 .
(104)
كتبه ،ومما يدل على عدم اشتهار جميعه ما في ترجمة محمد بن عبد الله الحميري من انه قال : كان السبب في تصنيفي هذه الكتب ـ اشارة الى بعض كتبه ـ اني تفقدت فهرست كتب الخاصة التي صنفها احمد بن ابي عبدالله البرقي ،ونسختها ورويتها عمن رواها عنه وسقطت هذه السنة عني فلم اجد لها نسخة ،فسألت اخواننا بقم وبغداد والري فلم اجدها عند أحد منهم فرجعت الى الاصول فاخرجتها والزمت كل حديث منها كتابه وبابه الذي شاكله .
وكيف كان فلا اشكال في ان كتب المحاسن لم يكن كلها على مستوى واحد من الشهرة والنقل ،فلو كانت رواية ابن بكير مروية من الكتب المشهورة دون رواية ابن مسكان ،كما يومي اليه توسط العدة في نقل الاولى ،وعلي بن محمد بن بندار فقط في نقل الثانية ،كانت الاولى اوثق واقرب الى الاعتبار .
الخامسة : ان زيادة (على مؤمن ) لم ترد في سائر موارد نقل حديث (لا ضرر ولا ضرار ) في كتب العامة والخاصة سواء ما جاء في ضمن قضية خاصة وغيره ،وهذا مما يقرب احتمال كونها من قبل الراوي .
فتحصل مما تقدم ان الاصح عدم ثبوت زيادة (على مؤمن ) في ذيل حديث لاضرر .
المقام الثالث : مما يتعلق بمتن الحديث : في تحقيق حال القسم الثاني منه وهو لفظ (لا ضرر) وقد اختلفت فيه مصادر العامة والخاصة ،اما باختلاف الروايات او باختلاف النسخ ـ وهذا هو الاكثرـ .
أما في ( مصادر العامة ) فقد نقل الحديث فيها على انحاء :
1ـ ما لا يتضمن القسم الثاني اصلا كالمروي عن جامع الصنعاني باسناده عن الحجاج بن ارطأة ،عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال :

(105)
قال النبي صلى الله عليه وآله : (لا ضرر في الاسلام ) . وهذا يحتمل فيه السقوط للجملة الثانية .
2ـ ما يتضمه بصيغة ( لا ضرورة ) كرواية أبي هريرة المروية في سنن الدارقطني ،اذ جاء فيها (لاضرر ولا ضرورة ) وكرواية عبادة بن الصامت على ما في كنز العمال نقلا عن زيادات عبد الله بن احمد بن حنبل في مسند أبيه ،وصحيح أبي عوانه والمعجم الكبير للطبراني ،ولكن سائر مصادر رواية عبادة ـ مما اطلعنا عليه ـ نقلت حديثه بصيغة (لا ضرار) وهي الموجودة في مسند احمد بن حنبل .
3ـ ما يتضمنه بصيغة (لا اضرار ) كرواية ابن عباس بنقل احمد بن حنبل ، والدارقطني ورواية أبي سعيد الخدري بنقل الدارقطني أيضا ،ورواية عائشة بنقل الزيلعي عن معجم الطبراني .
4ـ ما يتضمنه بصيغة ( لا ضرار ) وهذا هو الاكثر شيوعا في مصادرهم الحديثية والفقهية .
واما ( مصادر الخاصة ) وما يلحق بها ككتاب دعائم الاسلام ، فهي مختلفة على النحوين الاخيرين : ( لا ضرار ) و ( لا اضرار ) كما يلي :
1ـ رواية ابن بكير عن زرارة : ورد فيها في بعض نسخ الكافي ـ وهي النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول ـ بصيغة ( لا إضرار)(1)، ولكن ورد في الطبعة القديمة والحديثة من الكافي وكذا التهذيب بطبعتيه والفقيه بطبعته النجفية والوسائل والوافي جميعا بصيغة ( لا ضرار)(2).

____________
(1) في النسخة التي بين ايدينا من المرآة 19 | 394 ـ 395 ح2 لاضرار . ولكن في الطبعة الحجرية 3 | 433 فيها : لا إضرار .
(2) الكافي ط قديم 1 | 414 ، ط حديث 5 | 292 ح2 ، التهذيب ط قديم 2 | 158 ، ط حديث 7 | 146 ، الفقيه 3 | 147 ، ح648 ،
الوسائل 25 | 292 ـ 429 ح32281 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10|10.

(106)
2ـ رواية ابن مسكان عن زرارة : ورد فيها بصيغة (لا إضرار ) في الكافي المطبوع بهامش مرآة العقول ، وكذا في الوافي (1) ولكن في الطبعتين القديمة والحديثة من الكافي وكذا في الوسائل بصيغة ( لاضرار)(2).
3ـ رواية عقبة بن خالد في الشفعة : ورد فيها بصيغة ( لا اضرار ) في الفقيه ـ الطبعة الحديثة ـ وكذا في الوافي نقلا عن الكافي والتهذيب والفقيه (3) ، ولكن في غيرهما من المصادر ورد بصيغة ( لا ضرار )(4) .
4ـ رواية عقبة بن خالد في منع فضل الماء : ورد فيها في الوافي بصيغة ( لا إضرار ) (5) ولكن في غيره ورد بصيغة ( لا ضرار )(6).
5ـ مرسلة الصدوق : ورد فيها بلفظ ( لا إضرار ) في المطبوعة النجفية من الفقيه (7) ، ولكن في الوسائل بصيغة ( لا ضرار )(8).
6ـ مرسلة ابن أبي جمهور : ورد فيها بلفط (لا إضرار ) في النسخة المخطوطة التي اطلعنا عليها من عوالي الللآلي (9).
7ـ مرسلة دعائم الاسلام في حديث هدم الحائط : ورد فيها بصيغة
____________
(1) الكافي ط قديم1| 141 ، مرآة العقول 3 | 433 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10 | 143 .
(2) الكافي ط حديث 5 | 294 ح8 ، الوسائل 25 | 429 ح32282.
(3) الفقيه 3: 45 | 154 ، الوافي المجلد3 الجزء 10 | 103 ، الكافي ط قديم 1 | 410 .
(4) الكافي 5: 28 | 4 ، التهذيب 7: 164 | 727 ، التهذيب ط قديم2 | 162 ، الوسائل 25: 399 ـ 400ح32217.
(5) الوافي المجلد3 الجزء 10 | 136 ، مرآة العقول 3 | 343 وط قديم 1 | 414 .
(6) الوسائل 25: 240 | 32257 ، الكافي5 | 293 ـ 294 ح6 ، الكافي المطبوع في المرآة 19: 397 ـ 398.
(7) الفقيه 4 | 243 ح777.
(8) الوسائل 26 | 14 ح32382.
(9) وهي من موقوفات مقبرة فقيه عصره السيد ابو الحسن الاصفهاني (قده) في النجف الأشرف .

(107)
(لا إضرار) ـ على ما في مطبوعته المصرية ،- ولكن في المستدرك عنه بصيغة (لا ضرار) مع جعل (لا إضرار) نسخة بدل عنها(1) .
8 - مرسلة دعائم الإسلام الأخرى : ورد فيها بصيغة (لا إضرار) في جملة من نسخها المخطوطة التي اعتمدها محقق الطبعة المصرية ، وفي واحدة منها بصيغة (لا ضرار) كما هو كذلك في المستدرك أيضا(2)،
9 - المصادر الفقهية وغيرها كالخلاف والتذكرة والتبيان والغنية(3) ونحوها : ورد فيها بالصيغتين تارة (لا ضرار) وأخرى (لا إضرار) والاكثر هي ا لاولى .
وبعد ملاحظة اختلاف لفظ الحديث باختلاف النسخ أو الروايات فما هو الارجح من بينها؟!
الظاهر ان الأمر دائر بين صيغتي (لا ضرار ولا إضرار) ، وأما ما ورد في بعض مصادر العامة من حذف القسم الثاني من الحديث رأساً أو ثبته بصيغة (لا ضرورة) فلا يمكن الاعتماد عليه اصلاً كما هو واضح ، والارجح في النظر من الصيغتين المذكورتين هي الأولى منهما أي (لا ضرار) - كما استقربه في مجمع البحرين أيضا - وذلك لوجوه .
الأول : إنه ورد في عنوان الكافي (باب الضرار)(4) وهو يناسب كون الصيغة المستعملة في الحديث (لا ضرار) لا لفظ (لا إضرار) كما لا يخفى .
الثاني : إنه قد جاء في قضية سمرة توصيف النبي صلى الله عليه وآله
____________
(1) دعائم ألاسلام 2 | 4 0 5ح 1805 ، مستدرك الوسائل 7 1 |8 1 1 ح 20927 .
(2) دعائم الاسلام 2 | 499 ح ا 188 ، مستدرك الوسائل 17 |18 1 ح 928 20 .
الخلاف 3|42 ذيل ألمسألة 0 6 وص 81 ذيل المسألة 131 وص 83 ذيل المسألة 36 1. (3)التبيان 1 |379 والغنية الطبعة ألحجرية غير مرقمة .
(4) الكافي ط حدبث 292|5 .

(108)
لسمرة بإنه رجل مضار-كما تضمن ذلك خبر ابن مسكان وخبر أبي عبيدة وبعض اخبار العامة ، - ولفظ (مضا) صفة من باب المفاعلة كلفظ (ضرار) ، فيناسب أن تكون الكبرى المذكورة في القضية بصيغة المفاعلة أيضا ليسانخ الصفة المذكورة فيه.
الثالث : إن الشهيد في القواعد(1) اعتنى بضبط الكلمة وذكر انها بكسر الضاد وحذف الهمزة .
الرابع : إنه ورد في رواية هارون بن حمزة الغنوي المتقدمة قوله عليه السلام (هذا الضرار) وهو يناسب أن تكون الكبرى التي يبدو ان الامام عليه السلام كان بصدد تطبيقها بهذا اللفظ أيضا دون غيره .
الخامس : إن كتب اللغة اتفقت على ضبط الكلمة بصيغة (ضرار) وضبطها للالفاظ اكثر اعتبارأ من ضبط كتب الحديث والفقه لتركيزها على هيئة الكلمة بحسب طبعها مما يبعدها عن التحريف اكثرمن غيرها .
فبمجموع هذه الوجوه يطمئن بأن لفظ الحديث هو(لا ضرار) لا لفظ (لا إضرار) .
فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الصيغة الثابتة للحديث إنما هي (لا ضرر ولا ضرار) كما هو المعروف دون نقص أو تغيير أو زيادة وبذلك يتم الكلام في الفصل الاول وهو البحث عن سند الحديث ومتنه .

____________
(1) القواعد والفوائد 1 |123 .

(109)
(الفصل الثاني في تحقيق مفاد الحديث )
وقبل الدخول في البحث لا باس بذكر بعض كلمات اللغويين في شرح معنى الحديث وتوضيح المراد به .
قال أبو عبيد كما في النهاية: وفيه - أي في الحديث - لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ، الضر ضد النفع ، ضره يضره ضرا وضرارا ، وأضر به يضر إضرارا ، فمعنى قوله (لا ضرر) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئأ من حقه ، والضرار فعال من الضر: أي لا يجازيه على إضراره بادخال الضرر عليه .
والضرر: فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار: الجزاء عليه ، وقيل الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع به انت ، والضرار أن تضره من غير أن تنتفع به وقيل هما بمعنى وتكرارهما للتاكيد .
وقال الازهري : روي عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ، ولكل واحدة من اللفظتين معنى غير الأخر، فمعنى قوله (لا ضرر) اي لا يضر الرجل أخاه فينقص شيئا من حقه أومسلكه ، وهو ضد النفع ، وقوله (لا ضرار) أي لا يضار الرجل أخاه مجازاة فينقصه ويدخل عليه الضرر في شيء فيجازيه بمثله ، فالضرار منهما معا والضرر فعل واحد، ومعنى قوله (ولا ضرار) أي لا يدخل الضرر والنقصان على الذي ضره ولكن يعفو عنه كقول الله : (ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم) (1).
هذا والكلام في تحقيق معنى الحديث يقع تارة في مفاد المادة اللغوية
____________
(1) سورة فصّلت 41 | 34.

(110)
للضرر والاضرار والضرار، وأخرى في مفاد هيئتها الافرادية ، وثالثة في مفاد الهيئة التركيبية للجملتين فهنا ثلاثة مقامات .
المقام الأول : في مفاد مادة (ض رر) وقد ذكر اللغويون لها معان كثيرة، كالنقص والضيق وسوء الحال والزمانة والعمى والمرض والهزال والحاجة والقحط والايذاء والعلة وغير ذلك .
ولكن لا اشكال في ان هذه المادة ليس لها هذه الكثرة من المعاني ، بل المفهوم منها بحد ذاتها ليس إلا معنى واحداً أو اثنين أو ثلاثة وأما البواقي فليست معان للمادة وتوضيح ذلك :
إن المعاني المذكورة تنقسم باعتبار سعتها وضيقها الى فئتين : فئة المعاني العامة ، وفئة المعاني الخاصة . أما فئة المعاني العامة فهي المفاهيم التي تكون ابعد عن الخصوصيات واكثر تجردا عنها واقرب الى الشمول والسعة بالنسبة الى سائرها، وهي ثلاثة معاني من بين المذكورات (النقص - ضد النفع -، والضيق ، وسوء الحال ) وأما فئة المعاني الخاصة فهي سائر المعاني المذكورة التي هي ذات حدود ضيقة وتعتبر مصاديق للفئة الأولى كالعمى والزمانة والمرض .
وهذه الفئة لا اشكال في انها ليست من معاني المادة، لأن المفهوم. من المادة بحسب طبيعة معناها إنما هومفهوم عام لا يدخل فيه شيء من تلك الخصوصيات ، فمفهوم الضرر ومشتقاته لا يرادف العمى والزمانه والمرض والهزال ونحوها بل هي مصاديق له جزما، وإنما ذكرت في كلمات اللغويين في عداد معافي المادة بسببين أما خلطا للمفهوم بالمصداق بمعنى خلط المعنى الوضعي المدلول عليه بنفس اللفظ بالمعنى التأليفي المستفاد من الكلام على نحو تعدد الدال والمدلول ، وأما بغرض بيان ما اطلق عليه اللفظ سواء أكان معنى له أو مصداقا لمعناه ، لأن ذكر المصاديق يعين على معرفة
(111)
معنى المادة وحدوده .
وكيف كان فلا اشكال في أن فئة المعاني الخاصة المتقدمة خارجة عما يحتمل أن يكون، معنى لمادة (ض رر)، ولكن المعاني الثلاثة العامة وهي النقص والضيق وسوء الحال هل هي جميعا معاني لمادة تطلق عليها بالاشتراك اللفظي أو ان للمادة معنى واحدا فقط ، وان المذكورات مرشحات لتمثيل هذا المعنى العام ؟!
ربما يستظهر الوجه الاول من كلمات كثير من اللغويين ، ولكن الصحيح هو الوجه الثاني ، لأن المنساق من هذه المادة على اختلاف مشتقاتها وفى مختلف موارد استعمالها ليس إلا معنى عاما واحدا ، لا يختلف باختلاف الموارد فينبغي طرح المعاني الثلاثة المتقدمة كاقتراحات في تعيين هذا المعنى العام الوحداني فههنا عدة اقتراحات :
الأول : أن يجعل المعنى الاصلى، (سوء الحال ) ويرجع المعنيان الآخران اليه ، وهذا هو الذي اختاره الراغب في مفرداته قال (الضر سوء الحال اما في نفسه كقلة العلم والفضل والفقه واما في بدنه لعدم جارحة ونقص ، أو في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه ) .
والملاحظ عليه ان سوء الحال من المفاهيم المعنوية المحضة-بخلاف الضيق والنقص فإنهما من المعاني المحسوسة ، وفرض الامورالمعنوية المحضة معنى اصيلأ للفظ يخالف طبيعة اللغة، فإن أصول اللغة معاني محسوسة وإنما ارتبطت الالفاظ بالمفاهيم غير المحسوسة - متاصلة كانت أو اعتبارية - بالتطورفي المفاهيم الاصلية المحسوسة ، ولذلك قلنا في محله في الاصول إن الاعتبارات المتأصلة كالاعتبارات القانوية مثل الملكية والزوجية متأخرة في حدوثها عن الاعتبارات الادبية كالاستعارات والمجازات ، كما ان الاعتبارات الادبية متأخرة عن المعافي الحسية ، فالمعاني الحسية هي بمثابة رأس، المال
(112)
للمفاهيم اللغوية، حتى أن لفظ (العقل ) المعبر عن القوة المفكرة للانسان اصله من (عقال البعير) وهو الحبل الذي يشد به ليمنعه عن الحركة وهو امر محسوس ، وهذا يشير الى مدى اصالة المفاهيم الحسية في تكوين اللغة، وعليه فتفسير اللفظ بمعنى حسي أو أعم من الحسي وغيره -بحيث يكون اصيلا في الحس ثم يتطور الى معنى أعم - هو الاقرب الى طبيعة اللغة وما يعرف من مبادئ تكوينها ، ففي المقام يكون تفسير مادة (ض رر) بالضيق أو النقص أولى واقرب من تفسيرها بمفهوم تجريدقي كسوء الحال .
والحاصل إن تفسير الضرر بسوء الحال بعيد عن المعنى اللغوي والراغب الاصفهاني الذي فسره به يغلب عليه النزعة الفلسفية في تفسير المفردات اللغوية ، فهو يفسر اللغة بالمنظار الفلسفي وانتزاعه لمعنى اللفظ متأثر في حالات كثيرة - بهذه النظرة، كما ان بعضا آخر من اللغويين ، كالفيومي في المصباح المنير متأثر بالمصطلحات الفقهية في ذكر معاني الالفاظ ، وقد اوضحنا اختلاف حال اللغويين وتأثرهم بالعوامل الدخيلة في تفسير معاني الالفاظ في البحث عن حجية قول اللغوي في الأصول فلاحظ .
الثاني : أن يجعل المعنى الاصلي (الضيق ) سواءا كان حسيا مكانيا أو معنويا حاليا ، بحيث يكون استعمال الضرر في موارد النقص وسوء الحال إنما هوبلحاظ تسبيبها للضيق .
ويرد عليه : ان الملاحظ كثرة استعمال الضرر في موارد النقص وان لم يستوجب ضيقأ على الشخص ، مضافا الى أن الضيق قد جعل في الآية الكريمة : ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) (1) غاية للاضرار فلا ينسجم مع
____________
(1) سورة الطلاق 65| 6 .

(113 )
كون الضرر بمعنى الضيق إذ لا معنى لجعل الشيء غاية لنفسه فتدبر.
الثالث : أن يجعل المعنى الاصلي (النقص ) وهذا هو الصحيح لأنه . انسب للتدرج في توسعة دائرة مفهوم اللفظ من الامور المحسوسة الى غيرها، واقدر على استيعاب الموارد المختلفة التي استعملت فيها هذه المادة من دون عناية وتنزيل .
والمقصود بالنقص نقص الشيء عما ينبغي أن يكون عليه سواءا كان النقص في الكم المتصل كما في مورد ضيق المكان ، أم في الكم المنفصل كما في نقص النقود وما ماثلها من اقسام العروض ، أم في الكيف كما في سوء الحال بالمرض ، أم في العين كما في المركبات الخارجية كنقص العضو، أم في مورد الاعتبار القانوني كعدم مراعاة حق من حقوق الاخرين كما في قضية سمرة حيث لم يراع حق الانصاري في أن يعيش حرا في بيته بدخوله عليه من غير استيذان .
هذا وقد يفصل في المقام فيقال : إن معنى المادة في المجرد وفي باب الافعال أي في لفظ الضرر والاضرار وتصاريفهما ، هو النقص في الاموال والانفس -كما هي أيضا مورد مقابله أي النفع - فلا يطلق الضرر والاضرار في موارد التضييق على الشخص واحراجه بسلب حقه وايذائه ونحوذلك كما يشهد به العرف ، وأما في باب المفاعلة كالضرار والمضارة فهو عكس ذلك ، فإنه يستعمل في التضييق على الشخص وايقاعه في الحرج والمشقة دون النقص ، كما يظهر ذلك بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا الباب في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة، كما في قوله تعالى : ( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً لمن حارب الله ورسوله
(114 )
من قبل ) (1) فان الكفار كانوا يقصدون باتخاذهم هذا المسجد تضعيف المسلمين وتفريقهم وتقوية اعدائهم كما يظهر من تتمة الاية، لا ادخال الضرر المالي والنفسي عليهم ، ومن ذلك استعمال الضرار في مورد قضية سمرة فإن سمرة لم يكن يضر بالانصاري مالاً أو نفساً وانما كان يضيق عليه حياته ويحرجه في بيته كما هوظاهر.
ولكن ملاحظة موارد الاستعمال تشهد ببطلان هذا التفصيل لاستعمال الضرر والاضرار في موارد التضييق والنقص معا ، واستعمال الضرار في موارد النقص المالي أو النفسي كما يستعمل في موارد التضييق ، ومن الاول قوله تعالى : ( لن يضروكم إلأ اذى )(2) وقوله صلى الله عليه وآله (من اضر بامرآته حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار) ومن الثاني قوله تعالى : ( من بعد وصية أو دين غير مضار )(3) وقوله عليه السلام في صحيحة الغنوي (هذا الضرار) اشارة الى مطالبة الشريك بذبح الحيوان مع إباء الشريك الاخرعن ذلك .
هذا فيما يتعلق بتشخيص المعنى العام لمادة (ض رر).
____________
(1) سورة التوبة9| 107 .
(2) سورة آل عمران 3| 111 .
(3) سورة النساء 4 | 12 .