إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شعر الهجاء في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شعر الهجاء في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية

    مدخـل
    تكاثر شعر الهجاء في بلاد الشام زمن الحروب الصليبيّة، فقد ذكرت طائفة من الشعراء الذين اشتهروا بهذا الغرض، منهم أحمد بن منير الطرابلسيّ، وقد وُصِف بأنّه كان "خبيث اللسان، مهيناً لأعراض الرّجال، يسهل عليه الهوان، ولا يسلم أحد من هجائه"()، والرشيد النابلسيّ، وهو شاعر "شرس الأخلاق جافي الطبـاع، غليـظ الجواب"()، وملك النحاة الحسن بن صافي، وكان "مُرّ الشتيمة"()، وابن عُنَيْن، وقد وصفه معاصروه بأنّه "سخيف اللسان، قبيح الهجاء، أُغري بهجاء الناس، وتمزيق أعراضهم.. قلّ أن سلم أحد من الرؤساء والملوك وأرباب العلم والمناصب من لسانه"()، ومحمد بن يوسف السكاكينيّ من أهل حلب، كان "بذيء اللسان، هجّاء شِرّيراً يتّقى شره"()، ومحمد بن يوسف التلّعفريّ "له هجاء شنيع لم يسلم منه أحد"()، والأديب العرّمانيّ محمد بن عياش "إنسان سوء قلّ أن سلم أحد من شرّه ولسانه، قد جعل هجيراه الوقيعة في أعراض الناس وتلقيبهم، ولم يترك أحداً من الأماثل بحلب إلاّ وأظهر له لقباً ونبزه به"()، والملك الزّاهر الأيوبيّ، كان "منطلق اللسان، مغرى بهجاء أسرته، وذوي الأقدار من الأمراء والصدور"()، وسيف الدين السامريّ، كان "طويل الباع في الهجو"()، وابن المسجّف العسقلانيّ، كان "أكثر شعره في الهجو"(). وغير هؤلاء كثير. غير أنه ينبغي أن يشار هنا إلى أن المصادر التي ترجمت لهؤلاء الشعراء لم تورد من شعرهم الهجائيّ إلاّ القليل، بل إنّ بعضها لم تذكر شيئاً منه، لذا فإنّ هذه الدراسة تستقي المادّة الشعريّة من دواوين الشعراء الذين أكثروا من القول في الهجاء، مثل فتيان الشاغوريّ وابن الساعاتيّ وابن عنين، بالإضافة إلى ما لم يُنشر من شعر ابن منير الطرابلسيّ()، وما أوردته كتب التراجم والاختيارات من هذا الشعر لأولئك الشعراء وغيرهم.
    وثمّة عوامل عدّة أدّت إلى كثرة القول في الهجاء، بعضها شخصيّ يتعلّق بالخصومات والمنافسات بين الشعراء، أو بالعلاقات الخاصّة الّتي تربط بينهم وبين أبناء مجتمعهم، وبعضها يتّصل بظروف العصر وأحواله الاجتماعيّة، ومن هذه الظروف التفاوت الشديد في مستوى المعيشة بين فئات المجتمع، إذ يستشف من بعض الأخبار أنّ عامة الشعب كانت تعاني من الفقر، وأنه كان عليها أن تعمل في المهن اليدوية في المدن، أو في الفلاحة لدى المقطعين من الأمراء وغيرهم. وكانت تفرض على هذه الفئات، على فقرها، الضرائب التي تأكل ما لديها من دراهم وزروع(). ومن هذه الظروف جور بعض الحكام والعمّال، وقد ذكرت المصادر صوراً مختلفة لهذا الظلم، وأوردت ضروباً متعدّدة من العقوبات التي كان يوقعها بعضهم على الناس، مثل الصّلب والتّسمير(). ومن هذه الظروف الفساد الإداريّ الذي دبّ في الدولة الأيوبيّة بعد وفاة صلاح الدين، وتفّتت بلاده. فقد انتهز بعض العمال فرصة الصراع بين ورثة صلاح الدين، فطفق يعسف بالرعيّة، ويستصفي الأموال منها؛ فقد كان الوزير صفيّ الدين بن شكر "إذا لاح له مال عظيم احتجنه"() وامتدّ هذا الفساد إلى عدد من القضاة الذين كانوا يظلمون الناس، ويستغلّون نفوذهم لجرّ الدنيا إليهم().
    بيد أنه يجب أن يُحترس هنا من تعميم الأحكام السّابقة على العصر كلّه، فقد قام الزنكيون والأيوبيّون بإصلاحات إداريّة واجتماعيّة واسعة، ولكنه يبقى كغيره من العصور فيه الخير والشرّ، ومن ثمّ فإن هذه الدراسة تتناول بعض المظاهر السلبية في الحياة وموقف الشعراء منها، كما تمثّلت في شعر الهجاء.وتتناول الدراسة جانبين من هذا الهجاء، هما: الهجاء الشخصيّ، والنقد الاجتماعيّ، أمّا الهجاء السياسي فلن تعرض له الدراسة لأنّه مازج شعر المدح والجهاد، وصار محوراً رئيسياً من محاوره، بالإضافة إلى أنّ الدارسين قد تناولوا هذا الشعر وعالجوا جوانبه.أوّلاً: الهجاء الشخصيّكَثُر هذا النوع من الهجاء في بلاد الشّام زمن الحروب الصليبيّة، وتعدّدت دوافعه وأطرافه، ويمكن تصنيفه إلى ما يلي:أ- التهاجي بين الشّعراء.ب- هجاء الأفراد.جـ- هجاء المدن والبلدان.د- هجاء أماكن السكنى والمرافق العامّة.أ- التهاجي بين الشّعراء:أشارت المصادر إلى بعض المساجلات الهجائيّة الّتي وقعت بين عدد من الشعراء الشاميّين، ومن هؤلاء الشعراء ابن منير الطرابلسيّ، وابن القيسرانيّ، فقد ذكر العماد الأصفهانيّ في معرض ترجمته لابن منير أنّه "كان.... معارضاً للقيسرانيّ في زمانه، وهما كفرسي رهان، وجوادي ميدان"، ووصفهما بأنّهما "جرير العصر وفرزدقه"()، ولم يصل إلينا من هذه المهاجاة إلاّ القليل، ويبدو أنّ العامل المذهبيّ كان له دور فيها، فقد "كان القيسرانيّ سنيّاً متورِّعاً، وابن منير مغالياً متشيّعاً"()؛ لذا فعندما بلغ ابنَ القيسرانيّ أنّ ابنَ منير هجاه كتب إليه():
    حَبراً أفادَ الورى صوابَهْ
    فإنّ لي أسوةَ الصحابَهْ
    ابنَ منير هجوت مني
    ولم تُضيّق بذاك صدري

    ويبدو أنّ ابن منير كان سليط اللسان في هجائه لابن القيسرانيّ، فقد نال في القصيدة الّتي أرسلها إلى ابن المستوفي يشكو له فيها ما فعله الحشريّة() في داره - نال من كرامة الشّاعر، واتّهمه في عرضه وشرفه، وذلك إذ يقول():
    مِثلَ ما كان يَفعَلُ القيسراني
    عامَ قادتْ عليه أمُّ سنانِ
    أتراني أكَلت جَذْرَ عيالي
    أم كنفت الفلوس في خالد ابني

    وينتهز ابن منير دخول ابن القيسرانيّ دمشق، وقد صادف ذلك اندلاع حريق هائل في المدينة، ودخول أسراب من الجراد أتت على بساتينها وزروعها، وامتداد الأيدي بالسلب والنّهب، فيسخر من الشّاعر سخرية مريرة، إذ جعله رمزاً للشؤم وسوء الطّالع، مستعيراً له شخصيّة (طويس) الّتي يضرب بها المثل في التطيّر، وذلك إذ يقول():
    ألحَقَت جلّقَ بالمؤتفكهْ
    من توالي الفتن المشتبكهْ
    كلّ من سدّ عليها مسلكهْ
    تحت كيوان لهدّت فَلَكهْ
    دبّ للملسوع إلاّ أهلكهْ
    يا طوَيسَ الشؤم هذي الحركهْ
    جئتَها تُذكِرها عهداً مضى
    يا رسولَ القدرِ الحتَمِ الى
    لك رِجل قُطِعَت لو جُمِعَت
    شؤمها أسرى من السمّ فما

    ويصوّر ابنُ منير ابنَ القيسراني وقد تحاماه النّاس، وأخذوا يطردونه من كلّ مكان يحلّ فيه، فراح يتنقل من بلد إلى بلد حاملاً معه الويلات والمصائب:
    أرضَ قوم غبقتها الدكدكهْ
    قطّ إلاّ تركته تركهْ
    مأمن إلاّ وأمسى مع
    وتشفّ القصيدة عن الكراهية الشديدة التي يحملها ابن منير لابن القيسرانيّ، لذا راح يدعو أولي الأمر في دمشق إلى دفع النّحس والخراب عن المدينة بطرد ابن القيسرانيّ منها:
    ربعك المأهولِ هذي الهلكهْ؟!
    كلّ منجاة نحاها مهلكهْ؟!
    أيّ ستر ضمّه ما هتكه؟!
    يا مجير الدّين من دلّ على
    من رمى مغناك، لا ريع، بمن
    أي دار أمّها ما غمّها

    وتمضي القصيدة على هذا النحو من الإلحاح على استدعاء المعاني الّتي تصور شؤم ابن القيسراني وسوء طالعه، وكأنّ الشاعر بهذا يريد أن يحث النّاس على نبذه، وعدم الاتصال به، أو التعامل معه.ولم يقصر ابن منير هجاءه على ابن القيسرانيّ من الشعراء، وإنّما هجا شعراء آخرين وهجوه، فقد كتب أبو نزار الحسن بن صافي المعروف بـ "ملك النحاة" إلى أحد القضاة وتصنّع في الكلام باستعمال لفظة (العاصويّ) التي استغربها ابن منير، فقال هذه الأبيات ساخراً من أبي نزار وعلمه، ومستهجناً هذا القياس الشاذّ():
    تهجّيه من تحت قد أعجموها
    يعجّم أشياء قد أعربوها
    غدا وجه جهلك فيه وجوها
    ك إذا دخلوا قرية أفسدوها
    أيا ملك النّحو والحاء من
    أتانا قياسك هذا الّذي
    ولمّا تصنّعت في "العاصويّ"
    وقالوا قفا الشيخ إنّ الملو

    فأثارت هذه الأبيات حفيظة أبي نزار، فردّ عليها بأبيات اتّهم فيها ابن منير بأنّه يغير على أشعار الآخرين ويدّعيها لنفسه، ووصفه بأنّه رجل يستحق التأديب، وأخذ عليه إسرافه في هجاء النّاس وذمّهم():
    ء رتبة فخر فبالغت فيها
    وأفسدت أشياء قد أصلحوها
    ك إذا أخطأت سوقة أدّبوها
    أيا ابن منير حسبت الهجا
    جمعت قوافي من ذا وذا
    فقالوا: قفا الشيخ إن الملو

    شرّدته طلعة إنْ صبّحت
    لم يمل وجهاً إلى مال ثرٍ
    لا، ولا طرّ لها شدق على








يعمل...
X